الذين اختاروا العذاب!

TT

هناك أسطورة ألمانية تقول إن «كهف العبقرية» له باب ضيق.. وعند هذا الباب يجب أن يترك الإنسان جزءا من جسمه أو عقله أو قلبه.. ولم يتردد الفنانون لحظة في أن يتركوا الكثير أمام الباب..

باب العبقرية مثل باب جهنم في «الكوميديا الإلهية» للشاعر دانتي.. فعلى باب جهنم هذه العبارة: أيها الداخلون اتركوا وراءكم كل أمل من النجاة!!

وكذلك لا أمل عند الفنانين في النجاة من العذاب، ولكنهم هم الذين اختاروا العذاب.. لأن الفن قد اختارهم.. والذي يفقده الفنانون عند باب الكهف، ليس إلا الحد الأدنى من خسارته الحيوية.. ولكنهم ما داموا قد اختاروا لعبة الفن، فكل لعبة لها شروط، وشروط هذه اللعبة هي العذاب!

وكل شكل من أشكال الفن له أوجاع، أخفها الأوجاع الجسمية: فنافخ الناي يصاب بالتهاب في شفتيه ورئتيه.. وعازف العود في أصابعه.. وعازف الكمان في عنقه.. وعازف البيانو في ظهره وأسنانه.. وعازف الطبلة في طبلة أذنيه.. والراقص في قدميه وساقيه وعموده الفقري.. والمطرب والممثل في حنجرته ورئتيه ومعدته وخلاياه.. وهذه هي أمراض المهنة.. أو تشوهات الحرفة.. تماما كما ينحني إلى الوراء بائع العرقسوس وإلى الأمام طبيب الأسنان، ويصبح للحداد ذراع أقوي وأغلظ من الأخرى!

ومتاعب أهل الفن - شعراء وموسيقيين ورسامين وممثلين وراقصين - عضوية أيضا: في المعدة والأمعاء والكبد والقلب والرئتين.. وفي استطاعتك أن تستعرض الذين ماتوا في العشرين أو الخمسين عاما الماضية.

والسبب الأول هو الإرهاق الشديد وسوء التغذية وارتباك الوظائف العضوية بسبب فوضى الطعام والشراب والنوم والعمل والراحة. وكثير من الفنانين عندهم رغبة قوية في ترك العمل.. ولكنهم لا يجدون الشجاعة.. ولذلك فعندهم رغبة عميقة في الانتحار ليموتوا وهم يعملون.. ومن مظاهر الانتحار: مواصلة العمل.. أي مواصلة التعب.. وتعاطي المهدئات والمنبهات.. أي اللجوء إلى الراحة الإجبارية أو النشاط الزائف!

ومن مظاهر الانتحار: الاستشهاد.. فالفنان قد استراح إلى عبارة تقول: إنه يفضل أن يموت واقفا على أن يعيش نائما.. وإنه يفضل خشبة المسرح على خشبة الحانوتي..

أو إنه يفضل أن ينسج المتفرجون له كفنا من رموش عيونهم، وأن تكون جنازته تصفيقا يستمع إلى لحظات منه.. فكأن الفنان قد اختار العذاب بكل أشكاله الجسمية والعضوية والنفسية ولا يريد أن يخفف عن نفسه!