كل واحد له حياة!

TT

في عصور الرومانسية في أوروبا كان الشاعر أو الموسيقار ينزف دما في الطريق وفي الحفلات.. وكان الناس يرون ذلك طبيعيا: إنه فنان.. إنه حساس.. إن العناية الإلهية قد اختارته لهذه الرسالة المقدسة التي يجب أن يراق على جوانبها الدم. ولم يكن الطب قد تقدم ليدرك هؤلاء العباقرة.. ولو تقدم لرفضوه..

وهناك عبارة عربية قديمة تقول: «من يريد أن يتقدم لا بد أن ينزف الدم».. فماتوا صغارا دون الثلاثين عباقرة من أمثال الموسيقيين: موتسارت وشوبرت وبلليني وغيرشوين.. وشعراء مثل: شيللي وكيتس وليرمنتوف وتوفالي ورامبو ولوتريامون وبيرون وبروك وغيرهم..

وكان الموسيقار شوبان عاشقا للأديبة جورج صاند، وكان يقول في أيامه الأخيرة وهو يبصق دما: «كانت جورج صاند تقول لي: لن تموت إلا بين ذراعي. فأين هي وأين ذراعاها؟!».

والموسيقار مندلسون كان رقيقا وحالما ونصف مجنون، وعندما فوجئ بوفاة أخته، أحب الناس إليه، ظل يسعل وينزف حتى مات بعد ذلك بشهور!

وأكثر الناس حساسية أكثرهم مللا.. فهم ينشدون الجديد في الناس والأشياء والعلاقات.. والملل يدفعهم إلى التغيير والتمرد والتطرف والعنف..

وأكثر الناس مللا ممثلو المسرح.. فهم يظهرون كل ليلة ولشهور وسنوات يكررون نفس الكلام والحركات والغضب والابتسام.. لذلك كان الخروج على النص نوعا من التمرد.. نوعا من الضيق.. ضيق الإنسان بنفسه عندما يتحول إلى ببغاء.. إلى إنسان آلي..

ولا يزال الفنان يفضل الهواء الخانق في المسرح ووراء الستار على الهواء الطلق.. ففي المسرح هو الفنان الأوحد.. وفي الشارع يكون واحدا من الناس، من الملايين..

وحياة الفنان المسرحي حياة قائمة على الكذب والازدواج.. فهو يظهر في ثوب من صنع المؤلف والمخرج، ويندمج في الدور ويهز الناس ويدفعهم إلى البكاء والتصفيق.. ونحن نعلم أن الممثل يكذب، فالذي نراه أمامنا لم يحدث، لكن براعة الممثل هي أن يجعلنا نشعر كأنه حدث..

فحياة الممثل المسرحي حياة مشروطة: أي أن يعيش وسط إطار.. واحدا في قصة.. وإذا خرج بملابسه المسرحية إلى الشارع ظنه الناس مجنونا لأنه خرج عن الإطار إلى الواقع!

ولأن الممثل يدخل من حين إلى حين في قصة، في شخصية، في دور.. أي من أكذوبة إلى أكذوبة، تضطرب حياته وأعصابه وهو لا يدري من هو.. لأنه ليس واحدا وإنما هو كثير!