ليست مجرد حزمة

TT

المستعرض للعلاقات السعودية المصرية على مدى التاريخ منذ أقدم العصور يدرك جيدا عمق تلك العلاقات التي لم تكن في يوم ما مجرد علاقات سياسية أو اقتصادية فقط بل امتدت جذورها لجميع المواطنين وبكل المجالات حتى الاجتماعية منها، وعند قراءتي لخبر توجيه خادم الحرمين الشريفين بتقديم السعودية لشقيقتها مصر حزمة مساعدات لم أستغرب الخبر، ولكن لفت نظري نقاط أخرى لا سيما أن الخبر أصبح اعتياديا في ظل أن تبادل العون والوقوف كل منهما بجانب الأخرى بات من المسلمات الموثقة تاريخيا ليكون الأمر ليس شيئا جديدا.. بل إنه متوقع وبديهي جدا، اللافت للنظر هو توقيت ذلك القرض أو تلك الحزمة الاقتصادية، فالسعودية أول المبادرين لتقديمها، فالحالة التي وصل إليها الاقتصاد المصري تحتاج لوقوف الأشقاء ونركز هنا على كلمة الأشقاء بكل ما تحمله كلمة شقيق من معنى للكلمة وما هذه الوقفة إلا تجسيد عملي لها. نعود للحالة الاقتصادية وما عانته وتعانيه مصر دولة وشعبا كضريبة للثورة وما صاحب ذلك من انهيار لكثير من منابع الإيرادات الاستثمارية ومداخيل السياحة وتزايد الضغوط على الميزانية في ظل شح الموارد وتناقص المواد الحياتية والمستلزمات الأساسية للأسر والارتفاع الكبير في أسعار تلك المواد في ظل نقصها وشحها في الأسواق المحلية كاللحوم والخضراوات والوقود وما تحتاجه الدولة لاستتباب الأمن وهو عنصر أساسي اقتصادي ويحتاج إلى مبالغ باهظة لكي يعاود الانطلاق من عنق الزجاجة لأجل عودة الأمور إلى نصابها بعدما عانى منه الشعب وتحديدا فيما يذهب إلى نقص في المواد الأساسية والخدمات بدرجة لم يكن قادرا على احتمالها.

أيضا فإن الآثار الجانبية للثورة دمرت جزءا غير قليل من البنية الأساسية للبلد ناهيك عن حاجة الحكومة المديرة لشؤون البلاد حاليا لمساعدات عاجلة كي تعينها «أولا» على إدارة البلاد وثانيا لسد النقص الشديد في حاجات المواطنين وثالث الأثافي لإصلاح ما دمر وللبناء والمساهمة في دعم مسيرة التنمية حتى تعود عجلة الاقتصاد للدوران.. ناهيك عن سد عجز النقص الشديد في السيولة، وحسب تقارير الاقتصاديين فمصر تحتاج لما لا يقل عن عام ولقيمة مالية لا تقل عن 10 إلى 12 مليار دولار، كي تبدأ عجلة الاقتصاد بالتقدم للأمام ولتكون التغذية ذاتية للموازنة العامة من إيرادات النشاطات المحلية والتصدير والسياحة.

وعليه فإن توقيت القرض الذي جاء عاجلا ومن دون أي تأخير وبعد 3 أشهر على انتهاء الثورة، من 11 فبراير (شباط) إلى 11 مايو (أيار)، قد حمل تنوعا إيجابيا لافتا هدفه خدمة الاقتصاد المصري في المقام الأول وبما أثبت وبما لا يدع مجالا للشك أنها لم تكن مجرد صفقه ذات أرباح للسعودية حينما تجلت بعناوين مختلفة في أهمها منحة عاجلة لدعم الموازنة العامة المصرية كما اشتملت على شراء سندات ودعم للمشروعات التنموية وتمويل المشروعات المنتجة وجاءت هذه الحزمة على النحو التالي 500 مليون دولار لدعم الموازنة العامة و500 مليون قرض ميسر، و500 مليون من خلال شراء سندات حسب شروط الطرح العام للسندات. كما تضمن برنامج الدعم الاقتصادي مبلغ 500 مليون دولار لمشروعات التنمية كقروض ميسرة من الصندوق السعودي للتنمية، وكذلك 200 مليون أخرى كمنحة تودع بصندوق أو حساب جار لتمويل المشروعات المنتجة مثل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، و750 مليونا كخط ائتمان لتمويل الصادرات السعودية لمصر، ومليار دولار كوديعة للبنك المركزي المصري وفقا للترتيبات التي يتم الاتفاق عليها بين مؤسسة النقد العربي السعودي، والبنك المركزي المصري وفق آليات السوق المالية، حيث سيبرم اتفاق في القريب العاجل بين البنك المركزي المصري ومؤسسة النقد العربي السعودي حيال كيفية وشروط الإيداع.

ولذلك هي تعتبر برنامجا اقتصاديا متكاملا يخدم الشعب المصري الشقيق في المقام الأول وليست حزمة دعم فقط لاشتمالها على تنوع كبير في النشاطات من دعم إلى قروض ميسرة وشراء سندات ووديعة.

الملاحظ أن السعودية لم تحاول استغلال الوضع الاقتصادي المتردي في مصر ولم تضع شروطا صعبة أو تعجيزية أو تربط ذلك البرنامج بالتقدم بالإصلاحات الاقتصادية أو أنها مجرد مساعدات محتملة كان الهدف منها تحقيق بعض المكتسبات كما فعل الغير.. ويكفي أن نشير إلى أنها بادرت فورا بتقديمها، خاصة أن المباحثات بشأنها لم تستغرق وقتا طويلا رغم ضخامة البرنامج.. لكي تكون عنوانا للحاجات الفعلية والاحتياجات الحقيقية للاقتصاد المصري وحرصت على تقديمها بأفضل طريقة وأسرع وقت، والمبادرة بتنفيذ ذلك البرنامج فورا دون الدخول في سراديب الاجتماعات المتكررة، والرحلات المكوكية بل إن الجميع لاحظ أن الإعلان عنه رافقه تفاصيل فورية ودون أي تأخير مما يجعله برنامجا فاعلا وفوريا تقديرا من السعودية لحاجة شقيقتها مصر.

وكان هاما أن نلفت هنا أن السعودية ليست بحاجة إلى مكتسبات سياسية إضافية كي تسارع إلى تقديم القرض لتحصل عليها. وأيضا لم تسع إلى مكتسبات اقتصادية لأن البرنامج ارتكز على الدعم للاقتصاد المصري والموازنة العامة وتوجه جزء حيوي هام منه إلى دعم المشاريع المنتجة وخاصة الصغيرة والمتوسطة وشراء السندات.. واقتصاديا كان بالإمكان تحقيق أرباح كبيرة جراء استثمار مبلغ كهذا في مشاريع استثمارية ولكنه الواجب الأخوي الذي حتم هذه الخطوة وبما أفضى إلى أن مصر لم تستعيب لجوءها إلى شقيقتها السعودية للإحساس المتبادل بين البلدين أن وقوف إحداهما بجانب الأخرى واجب وليس منة أو استعراضا.

من جهتي فقد لمست استجابة سريعة لتلك الحزمة اندرجت على كثير من الأنشطة وحتى سوق المال التي استعادت الكثير من المليارات كنوع من ردة الفعل الإيجابية وبما أوجد مساحة من الثقة في عودة الروح للاقتصاد المصري ومن جراء تحسن المناخ الاقتصادي أو فلنقل ارتفاع حالة التفاؤل وتناقص النظرة التشاؤمية للمستقبل القريب للاقتصاد المصري واستعادة الكثير من أذرع الاقتصاد والمشاريع ومحاولة بناء ما هدم أو استكمال ما توقف وإن كان ذلك جزئيا ولكنه يبشر بخير.

ما حدث باختصار يوضح أن السعودية تتعامل مع مصر الوطن وليس مصر كشخص محدد أو حكومة محددة بل نظرتها موجهة في المقام الأول إلى الشعب المصري كما تنظر إلى الشعب السعودي ويهمها أن تكون شقيقتها مصر قوية دائما كما كانت.

* عضو جمعية الاقتصاد السعودية.. عضو الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين