الديمقراطية الكويتية وضيق المسالك

TT

في الوقت الذي تنشغل فيه ساحات عربية بالتغيير طلبا لشيء من الديمقراطية والمشاركة، تضيق بالديمقراطية الكويتية المسالك. فها هي الوزارة رقم سبعة التي تتشكل في غضون خمس سنوات فقط، أي تشكيل وزاري في المتوسط لأقل من سنة، وهذه هي الأزمات تطل من جديد لتعيد نفسها، ولا أحد يعرف ما يمكن أن تتمخض عنه الأيام القادمة من نتائج. في الوقت نفسه الذي يقوم المجتمع الكويتي بتمزيق نفسه قبليا وطائفيا ومناطقيا وكذلك اقتصاديا. دوامة يحار في فهمها المدقق.

حتى الآن، لم تصل الكويت إلى مرحلة (ثني الأعنة) والخروج من الدائرة المغلقة بالنظر إلى المستقبل، والانصياع إلى الحقائق التي يتطلبها ذلك المستقبل وهي أعمق من المظاهر. لعل الحقيقة الأولى في التجربة الكويتية هي (تقديس الوسائل وتجاوز المبادئ)، فالديمقراطية ليست هدفا بحد ذاته، أي ليست صناديق انتخاب وجمع أصوات ومخيمات انتخابية، هي وسيلة لغاية أهم وأكثر من ذلك. الغاية كما يفهمها أغلب الناس، هي حل المشكلات التي تواجه المجتمع والسير به نحو السلام الاجتماعي والتنمية المتساوية في جو من الاستقرار وهي كلمة مفتاحية تعني صلب الديمقراطية. لقد قدست الوسائل في الكويت واستعيض بها عن المبادئ. من ضمن تلك الوسائل الدستور، وكلما قرب أحد منه ظهرت الأصوات (إلا الدستور)، دون تمهل ودون محاولة سماع للرأي.

فالدستور الكويتي الذي وضع قبل نصف قرن، أشار في صلب مواده إلى أن يراجع بعد خمس، نعم خمس سنوات من التطبيق، اعترافا من المؤسسين بأنه وثيقة إنسانية تحمل الخطأ والصواب، وشرط المراجعة رفع سقف الحريات وتوسيع قاعدة المشاركة. والفكرة من المراجعة، أن تطور وسيلة للتوافق الاجتماعي والسياسي من أجل تقديم حلول موضوعية لما يواجه المجتمع من مشكلات في أزمان مختلفة. إسقاط عامل الزمن هو أول ما يشوب الضبابية السياسية الكويتية، فالزمن يعبر عن نفسه بتوالي الأجيال وتغير حاجاتهم وأولوياتهم. الوسائل الناجحة أيام التأسيس (منذ نصف قرن) محدودة بطبيعة الحال بزمانها، وكلما تغير الزمن تغيرت الحاجات. يقاوم الحديث حول الدستور وإمكانية النظر فيه من مكانين متناقضين: الأول من القوى المستفيدة من احتكار وضعه كما هو، من أجل الاستفادة من الثغرات العملية التي شابت تطبيقه، ومن جانب آخر من قوى أخرى ترغب في تدهور الممارسة السياسية حتى تبقى عليلة لتقبيح وجه الديمقراطية، حتى تصبح المناداة بالتمسك بالمبادئ (المشاركة السياسية) مذمومة! الطرفان بشكل واضح أو خفي، مقصود أو غير مقصود، يرميان إلى الوصول بالتجربة إلى ذلك الطريق المسدود، فيصبح الأمر وكأن الكويتيين يرجعون من (الحج) والناس ذاهبة إليه. الأجيال الجديدة تستهجن ديمومة عدم الاستقرار بآلية قصد منها أساسا الوصول إلى الاستقرار، أي وضع الداء في الدواء.

تعالوا ننظر في التفاصيل وهي مجموعة من الأسئلة: هل يعقل أن يصوت في انتخابات عام 1962 ما نسبته 4% تقريبا من الأصوات التي صوتت في انتخابات 2009، والاثنان من أجل وضع 50 عضوا في السدة البرلمانية؟! كيف يمكن أن يتغير حجم سكاني بهذه النسبة الهائلة، ويبقى عدد ممثليه نفسه قبل 50 عاما! وفي التفاصيل أيضا، هل يمكن أن تبقى تجربة بهذا التاريخ الطويل، دون ظهور تكتلات (ولا أريد أن أقول أحزابا) تحدد في ما بينها من الأشخاص من له مواصفات يمكن ائتمانه على التمثيل الشعبي، وترك الأمر إلى العلاقات الأسرية والقبلية والطائفية والمالية تحدد الحصان الرابح. ثم يصل العضو، دون جهاز خلفه للمتابعة، ولا أقول المراقبة!

كل التجارب في العالم الحديث تنظم الوصول إلى برلماناتها أحزاب، تنتقي من بينها أعضائها من ترى أن له مواصفات محددة وملتزم بأجندة واضحة يعرفها الناس ويخضع للمحاسبة. في التصويت البرلماني الكويتي، تجد العجب، فلا يستطيع مراقب، مهما أوتي من فراسة، أن يتنبأ بأي اتجاه سوف يصوت العضو في القضايا الخطيرة المطروحة، في الغالب أن نفس العضو يصوت باتجاه في قضية، وفي أخرى مشابهة لها، يصوت باتجاه آخر، في سباق حواجز للانتقال من الموالاة للمعارضة وبالعكس، على أساس أن ذاكرة المواطن قصيرة، وهي بالفعل كذلك. من جانب آخر، تستطيع كتلة صغيرة في البرلمان أن تفرض أجندتها، لا بسبب قوة حجتها ولكن بسبب تفتت العدد الأكبر على أجندات شخصية، فتقوم الأقلية بفرض أجندة المجتمع، على الرغم من وجود أكثرية غير فاعلة، لكنها متناقضة ومتعارضة.

التركيبة إذا لم تعد مناسبة للحاضر ولا مجدية للمستقبل، لا من حيث الحجم ولا من حيث الآلية، ودون النظر في تغيرها بجدية من أجل رفع سقف الحريات وتوسيع المشاركة - فإن الأزمات سوف تفرخ نفسها حينا بعد حين، وتتعطل مصالح الناس، في لغو بدا حتى في ألفاظه المستعملة يتدهور داخل القبة البرلمانية وخارجها.

لقد تحول العمل البرلماني إلى شكل دون مضمون، بدليل أن الساحة بدأت تخرج من قاعة البرلمان إلى الشارع وإلى وسائل الإعلام، وهو دليل على مرض الممارسة لا على صحتها، بل تحول إلى أسوأ من ذلك، الاتهامات المتبادلة بين الأعضاء أنفسهم وإلباس البعض بردة المواطنة والآخرين بردة التقاعس القريبة من الخيانة، والعياذ بالله.

ثقافة الممارسة الديمقراطية الكويتية عليلة، ذاك هو التشخيص العام، قد يختلف البعض في مكمن العلة، وكيفية العلاج، ولكن الاتفاق شبه كامل على أنها عليلة، ومظاهر العلة واضحة لمن يريد أن يرى من خلال سيل من الكتابات الناقدة، وخاصة من الجيل الجديد، هناك ردة سياسية في العمل السياسي الكويتي، لم يكن الآباء المؤسسون قد تصوروها ممكنة، فبدلا من التطوير تتراجع الممارسة وتفرز أشكالا من الأزمات في صلبها إيصال الوهن لمؤسسات الوطن وتعطيل مصالح الناس. دون الوعي بالتفرقة بين المبدأ (أهمية المشاركة السياسية) ووسائل خدمته التي تحتاج إلى تطوير جوهري، ستظل الأزمة الكويتية تلد أزماتها التلقائية، قد يختلف الأشخاص وتتغير الوجوه، إلا أن بقاء الهياكل كما هي، سيولد، لا ريب، أشكالا من الأزمات الجديدة.

آخر الكلام

بوصول علي صالح إلى المملكة العربية السعودية، تدخل اليمن منعطفا آخر، وسوف يراقب العالم بسؤال: هل المشكلة في الأشخاص أم في غياب المؤسسات التي لم تقم حتى الآن في الفضاء العربي، لننتظر ونر!