من دون «تقريبا»

TT

من الكلمات العامية التي حيرت قلوب العارفين وفتقت أذهان النابغين، كلمة «تقريبا» عندما تستخدم بالعامية في مصر فهي تعطيك منطقة هلامية رمادية لا ممسك لها ولا مأخذ عليها، فيبقى قائلها في حل من الالتزام.

تذكرت هذا وأنا أتابع بدهشة وتعجب تعليق وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون على الأحداث الحاصلة الآن في سوريا حين قالت: إن النظام في سوريا فقد شرعيته «تقريبا». وطبعا بقي المتابعون لهذا التصريح العجيب في حيرة من أمرهم.. ما معنى «تقريبا» في هذه الحالة؟

غير معروفة هي تماما، تذكرني بمدير إحدى الشركات حينما كان يتحدث عن مدير مالي بأحد الأقسام لديه فوصفه بأنه يثق فيه بنسبة 65%!

الشرعية مثل الثقة؛ إما موجودة، أو غير موجودة.. لا تناسب ولا نسبة ولا «تقريبا» فيها.

تعليقات غريبة وشائنة يتناولها كثير من «المطبلين» السياسيين في القنوات الفضائية التي يتفوهون فيها بأعجب التفاسير لأجل إرضاء بعض المتطرفين في النظام السوري ومن هم محسوبون عليه، ويكيلون أبشع التهم «للدور السعودي» في الأزمة السورية الحالية. وطبعا هي محاولة أخرى لإيجاد فزاعة لإقناع الناس في الداخل السوري بأن هناك أعداء لهم من الخارج ويتربصون بهم.

وهنا أجد نفسي، كسعودي ومحب لسوريا، في موقع الدفاع ضد هذا الهراء والسخف. السعودية لها تاريخ طويل ومهم ولافت من المحبة لسوريا وشعبها، والتاريخ والحاضر يشهدان على ذلك في مشاهد عديدة ومتنوعة؛ فمنذ القديم كانت القوافل والتجار ينطلقون من قلب الجزيرة العربية بنجد صوب بلاد الشام للإقامة والتجارة بالإبل والماشية، في ظاهرة عرفت بـ«العقيلات».. ولليوم، هناك آثار ومشاهد لوجودهم، وأسر استوطنت الشام من القبائل العربية، وكذلك في ثاني أكبر المدن السعودية، بوابة الحرمين الشريفين جدة، وبتركيبتها القديمة، كان أحد الأحياء الأساسية فيها «حارة الشام» محبة في رحلة الشتاء والصيف المذكورة في القرآن الكريم. واستوطن في جدة كثير من الأسر ذات الأصول الشامية، وصاروا جزءا من النسيج الوطني السعودي. ومؤسس السعودية الملك عبد العزيز أحاط مجلسه بالعديد من المستشارين والمسؤولين من سوريا؛ مثل الدكتور رشاد فرعون، ومدحت شيخ الأرض، ويوسف ياسين.. وغيرهم من الشخصيات المحترمة والناجحة. واستمر الاحتضان السعودي للعديد من الشخصيات السورية المهمة من آل العظم، ومردم بك، والجابري، والكيلاني، والأتاسي، والدواليبي، والقباني.. وغيرها من الأسر السورية العريقة التي أتت إلى السعودية نتاج ظروف سياسية واقتصادية وإنسانية عصيبة مروا بها في بلادهم. ومع كل هذا، بقيت العلاقة السعودية - السورية على خط من الاحترام لا محيد عنه، وبقي التفاهم موجودا في العديد من القضايا الكبرى؛ مثل حرب رمضان (أكتوبر 1973)، وتحرير الكويت، واتفاق الطائف.. وغيرها من المسائل الحيوية.

لا ينكر أحد أنه كانت هناك حالات من الاختلاف في المواقف والشد والجذب السياسي، خصوصا بعد توحش الدور الإيراني في المنطقة، وهو الذي كان له انعكاس مباشر على توتير المواقف وتأزيم المواضيع.. ومع ذلك، وقفت السعودية دوما ضد التصعيد على سوريا، ومع حماية الشعب واستقرار البلاد، لأن السعودية تؤمن تماما أن سوريا بلد عظيم، وصاحبة تاريخ استثنائي ومبهر، وأن هذه البلاد أنجبت فطاحل من الرجال في السياسة والاقتصاد والأعمال والطب والعلم والفن، كانوا خير سفراء لبلادهم، وتركوا أثرا لا يمكن نسيانه.

ومن هذا المنطلق، يبدي السعوديون قلقهم الشديد وخوفهم الكبير مما يحصل في سوريا اليوم؛ فهو شعور نابع من المحبة والاحترام والحرص في المقام الأول، فهم يدركون تماما أن هناك وضعا خاطئا اليوم في سوريا، وهي مسألة أقر بها الرئيس السوري نفسه، وإلا ما كان أقدم على مجموعة من الإصلاحات المتتالية. ولكن من السخف والسذاجة، أن يدرج اسم السعودية والسعوديين كتبرير لما يحدث في سوريا اليوم، وهذه مسألة لا «تقريبا» فيها!

[email protected]