نتنياهو والثورات العربية

TT

مشهدان جريا على الساحة العربية خلال الفترة القصيرة الماضية، وتحديدا منذ بداية هذا العام: الأول ما جرى في عدة بلدان عربية من «ثورات» أو «انتفاضات» - سمها ما شئت - ولكنها في كل الأحوال أطاحت بنظم، وسعت للإطاحة بأخرى، ووضعت دولا عربية ثالثة في حرج بالغ حتى بدا حديث الإصلاح الفوري يصدر يوميا بإصرار لا يجوز بدونه طلوع الفجر أو غروب الشمس.

المشهد الثاني جاء في واشنطن عندما أطلق الرئيس باراك أوباما مبادرته الأخيرة لإطلاق عملية سلام جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أساس قيام دولتين يفصلهما حدود يونيو (حزيران) عام 1967 مع تبادل للأراضي يكفل التواؤم مع التطورات التي جرت على مدى أربعة وأربعين عاما ماضية. بقية القصة بعد ذلك معروفة، فقد أتى نتنياهو إلى العاصمة الأميركية رافضا الخطاب وما جاء فيه؛ ورغم أن كليهما ألقى خطابا آخر في لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية، ممالئا من جانب أوباما، ورافضا متعنتا من جانب نتنياهو، فإن الجسر بين الرجلين بقي هشا. ومع ذلك فإن المشهد لا يكتمل إلا إذا نظرنا إلى خطاب نتنياهو أمام مجلسي الكونغرس والتصفيق الذي حصل عليه والأعضاء وقوفا لكي تكتمل الرواية وهي تشهد أن الظفر الإسرائيلي لن يخرج من اللحم الأميركي، والخلاف بين الطرفين دائما لا يفسد للود قضية.

المشهدان يضعان بذور مشاهد أخرى في رواية تاريخية للصراع العربي - الإسرائيلي؛ ولم يكن لأوباما أن ينطق بالكلمات السحرية للعرب - حدود 1967 - لولا أنه يريد خطب ود الثوار العرب الجدد الذين يريد أن يأخذ فصلا من ثورتهم يقيم الديمقراطية وينشر الحرية والمصالح الأميركية معها على طريقة أوباما الناعمة وليس على طريقة سابقه بوش الفظة والغليظة. فظهوره على الساحة الأميركية كان ثورة من نوع خاص غنية وملهمة، وخطابه في القاهرة كان رسالة ثورية حين جعل ما هو أميركي له سمات «إنسانية». ولن يختلف أحد على أن أوباما لم يكن يظهر عليه كثير من الحب والود تجاه القادة العرب على عكس عائلة بوش التي كانت لها صلات أسرية ومالية مع بعضهم.

الاقتراب من الثوار العرب لم يمض طويلا إلا وظهرت العقبة الإسرائيلية كما تظهر دائما لكي تضع الفالق بين الولايات المتحدة والعالم العربي. ومن الجائز ألا نعلم ذلك خلال الفترة القصيرة المقبلة نتيجة أن ما يجري في العالم العربي لم يصل إلى نهايته بعد، وحتى إذا وصل إلى نهايته فإن إعادة تشكيل النظام الإقليمي بناء على ما انتهى إليه الأمر سوف يأخذ وقته هو الآخر.

ومع ذلك فإن تاريخ الشرق الأوسط ربط الثورة واليقظة العربية دائما بالقضية الفلسطينية وربما كانت مصالحة «فتح» مع «حماس» رغبة في استغلال لحظة تاريخية مواتية ووجدت برهانها من استعداد عالمي للاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967، واستعداد أميركي لنطق الكلمات السحرية رغما عن الغضب الإسرائيلي.

ولكن المشكلة ربما تكون أكثر تعقيدا من ذلك، فالحركات العربية الثورية التي بنت ثوريتها في معظم الأحيان على القضية الفلسطينية مثل الحال في العراق وسوريا وحتى مصر في السابق، كانت هي ذاتها عدوة الشعوب وخرجت من اللحظة التاريخية للثورة الحالية مكللة بالعار. وقد عكست حالة حزب الله هذا المأزق الثوري - أي المضاد لإسرائيل - حينما جاءت ساعة الاختيار بين الشعب السوري المنشغل بذاته ومستقبل أبنائه؛ والسلطة التي عاشت على صراع مع إسرائيل لم تطلق فيه طلقة واحدة لتحرير الجولان ولكن موقفها السياسي كان دائما محاربا.

السؤال الآن: هل كان موقف نتنياهو قائما على تحليل للثورات العربية الجديدة وكون أنها سوف تكون مثل القديمة تعيش وتقتات على القضية الفلسطينية ومن ثم وجبت المواجهة والحزم منذ البداية. وحتى مصر جاءتها رسالة أن «القاعدة» تسيطر على سيناء، ومن ثم فإن إسرائيل حرة في أن تفعل ما تشاء بعد ذلك. أو أن التحليل جرى في مسار آخر وهو أن الثورات العربية جاءت لإصلاح ما أفسده الدهر في ثورات سابقة اهتمت بالخارج على حساب الداخل ومن ثم وجب الابتعاد عن الحروب والصراعات وأزمانها. وهل هي محض صدفة أن شخصية من القوميين العرب الناصريين والمرشح للرئاسة في مصر مثل حمدين صباحي يصرح عدة مرات بأنه ليس بصدد شن الحرب على إسرائيل وإنما شن الحرب على الفقر وإصلاح التعليم والصحة وغيرها من شؤون الداخل.

والحقيقة أننا لا نعرف الكثير عما دار في دوائر صنع القرار الإسرائيلي ولكن النتيجة في كل الأحوال واحدة، ونتنياهو قرر أن يجمع ما بين الردع واستغلال الفرصة. المؤكد لديه أن الثورات العربية لن تكون على استعداد لإقامة سلام إضافي، وهي على الأرجح سوف تجعل السلام القائم حيث قام أشد برودة من القطبين الشمالي والجنوبي. ولكن إسرائيل تستطيع التعايش مع هذه البرودة، وهي لم تكن متحمسة في جانب اليمين الإسرائيلي لكي تجعله أكثر دفئا، لم يكن هناك من يريد أن يجعل إسرائيل دولة من دول الشرق الأوسط على أية حال.

المشهدان، كما هو حال كل المشاهد في الروايات الطويلة، لا يكونان نهاية القضية، ولكن فصلا من فصولها وصل إلى نقطة التحام ربما تتطور لكي تأخذ مسارا لنفسها؛ أو ربما تأخذ منحى آخر وتنتهي عند هذه الحال. ولكن هناك ما يدفع المشهدين إلى الأمام، حيث حاولت فرنسا حل المعضلة بلقاء بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني؛ وهناك من جانب آخر اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة القادمة في سبتمبر (أيلول) حيث التصميم الفلسطيني على طرح قرار الاعتراف بدولتهم في حدود 1967. باريس تحاول أن تحرز نقطة ضمن منهجها الجديد النشط في الشرق الأوسط؛ ولكنها تبحث أيضا عما بحث عنه أوباما من قبل وهو أن يصرف أنظار الفلسطينيين والعرب عن الذهاب إلى نيويورك والأمم المتحدة.

الغريب أن كل ذلك يحدث بينما آلية العرب الجماعية - الجامعة العربية - في أضعف حالاتها، فلا قمة عربية انعقدت، والأمين العام الحالي منشغل بمستقبله السياسي في مصر. والعلاقات الثنائية التي استندت دائما على القاعدة المصرية - السعودية يوجد فيها قدر غير قليل من الاضطراب والمراوحة ما بين بقاء القاعدة صلبة وإن تغيرت النظم السياسية؛ وبين الاقتناع بأن القواعد لا تبقى على حالها إذا ما تغيرت مكوناتها. والتغير في المكونات يجري الآن في القاهرة والرياض، كل على طريقته الخاصة؛ وبقي أن كليهما يحاول الاقتراب من الطرف الآخر رغم عنف العواصف والأنواء.

إنها مشاهد رواية مركبة، وفي مثل هذه الحالة لا يعرف أحد كيف تكون النهاية، ولكن المعامل الفلسطيني في الثورات العربية لا يمكن تجاهله كما كان الحال حينما كان الركود العربي سائدا.