«الجراحة الخطرة» في الخرطوم

TT

الأسبوع الماضي أعلن الرئيس السوداني عن خطوات وإجراءات اقتصادية تقشفية لمواجهة الآثار المترتبة عن انفصال الجنوب الذي سيقنن رسميا بإعلان «دولة جنوب السودان» في التاسع من الشهر المقبل. وأقر البشير في خطاب ألقاه أمام حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم بأن انفصال الجنوب ستكون له آثار اقتصادية سلبية على الشمال، قائلا «سنفقد نصيبنا من بترول الجنوب، وهذا سيكون له أثر على الميزان التجاري الخارجي لأن عائدات النفط تمثل جزءا كبيرا من صادراتنا».

بعد هذا الاعتراف بالأزمة الاقتصادية المقبلة أشار البشير إلى الصدمة العلاجية التي ستشمل توسيع الضرائب وخفض الإنفاق العام. ما لم يقله البشير بالتفصيل عن هذه الإجراءات قاله والي الخرطوم الدكتور عبد الرحمن الخضر، الذي شبه الإجراءات التي ستنفذ ضمن الخطة الثلاثية بـ«الجراحة الخطرة». ففي تصريحات له أدلى بها لـ«الشرق الأوسط» نشرتها يوم الأربعاء الماضي أشار الخضر إلى أن القرارات تشمل رفع الدعم جزئيا عن سلع أساسية مثل البترول والسكر ووقف استيراد بعض المواد «غير الضرورية» لأن عائدات البلاد من العملات الصعبة ستشهد انخفاضا هائلا. أما السبب في ذلك فهو أن الحكومة ستفقد نسبة تقدر ما بين 60 إلى 85 في المائة من عائدات النفط التي ستؤول إلى الجنوب.

الطريف أن الرئيس البشير كان قد قال في خطاب ألقاه في بداية فبراير (شباط) الماضي في تبريره للدفعة الأولى من رفع أسعار البنزين والسكر التي أثارت احتجاجات في بداية العام الحالي، إن استهلاك البلاد من السكر يعتبر عاليا لأن المقتدرين «بيشربوا حاجة باردة أكثر من مرة في اليوم، وتحلية بعد الوجبة». ووفقا لهذا التحليل الاقتصادي التبسيطي للأزمة، فإن الحكومة قد تقوم باختصار اسم مشروب «الحلو مر» الذي يشربه السودانيون في رمضان ليصبح «الكوز المر» وفقا لبرنامج التقشف الجديد الذي لا يريد حلوا في شفاه السودانيين حتى لو كان «ملعقة سكر».

عودة إلى تصريحات والي الخرطوم عن خطط حكومة الإنقاذ لمواجهة «الآثار السالبة» لانفصال الجنوب، فقد أكد أن الحكومة ستسعى إلى مواصلة استكشاف البترول في الشمال لتعويض ما فقدته في الجنوب، كما أنها ستلتفت إلى الموارد الطبيعية كالمعادن «فالآن الذهب في البلاد على سطح الأرض»، على حد قوله. هذا معناه أن الشمال يلمع الآن تحت الشمس الحارقة، وما على السودانيين المغلوبين على أمرهم إلا الخروج وجمع الذهب من الأرض لشراء احتياجاتهم من السكر والبنزين، والسلع الأخرى غير الضرورية التي ستوضع في قائمة سوداء. وحتى إذا صدقنا هذا الكلام، فإن السؤال هو: أين كنتم طوال الاثنين وعشرين عاما الماضية؟ ولماذا لم تلتفتوا إلى المعادن وتركتم الذهب مهملا هكذا على سطح الأرض؟ بل لماذا أهملتم الزراعة وهي ذهب السودان الحقيقي وثروته الاستراتيجية؟

وما دام الأمر بالأمر يذكر، فإن الحكومة تقوم منذ فترة بنزع الأراضي الزراعية من الناس وتشتريها منهم قسرا بأبخس الأسعار لتبيعها بأسعار عالية إلى مستثمرين أجانب، لكي يستفيد سماسرة الحزب الحاكم. وخلال هذه الأيام هناك مشكلة مع مزارعي مشروع الجزيرة، وهو من أكبر المشاريع الزراعية في السودان، الذين ينظمون احتجاجات لأن الحكومة نزعت أراضيهم ولم تدفع لهم تعويضات مناسبة. فإذا كانت الحكومة تبحث عن بدائل، فإنها بدلا من هذا التفريط في أراضي السودان، ألم يكن من الأفضل التوجه نحو الثروة الزراعية وتوجيه جزء من عائدات النفط السابقة للاستثمار فيها لكي يتحقق شعار «السودان سلة غذاء العالم» الذي نسمعه منذ أن كنا صغارا ويردده معنا كثيرون حول العالم؟

المحافظ السابق لبنك السودان (البنك المركزي) صابر محمد الحسن كان قد أقر في تصريحات نشرتها صحيفة «حريات» الشهر الماضي بأن الاقتصاد السوداني يعاني بسبب اعتماده على البترول وإهماله للموارد الاقتصادية الأخرى خصوصا الزراعة. وحذر صابر من «الصدمة» التي سيواجهها الاقتصاد السوداني بعد انفصال الجنوب رسميا والانخفاض المفاجئ في عائدات البلاد من العملة الصعبة. كما أشار إلى مشكلة الديون الخارجية التي تقدر بنحو 37 مليار دولار، قائلا إن السودان يعتبر الأكثر مديونية من بين دول القارة الأفريقية.

إضافة إلى هذه المشاكل، فإن السودانيين يشيرون إلى الفساد باعتباره قضية أساسية بعدما استشرى وبات يستنزف البلد ومقدراته، ويركز النشاط التجاري والاقتصادي في أيدي المحسوبين على النظام. فالفساد الذي قيل إنه جعل بعض شباب المؤتمر الوطني الحاكم يحذرون من مغبته على النظام خلال لقاء لهم مع البشير، لم يعد ظاهرة فردية بل أصبح ظاهرة مؤسساتية يرعاها النظام وتستفيد منها بطانته وحاشيته وكل من تسربل بعباءة إسلاميي السلطة. والأمر لم يعد سرا، بل تحول إلى مادة أساسية في أحاديث السودانيين، وسيزداد الحديث عنه مع الأزمة الاقتصادية المقبلة مع الانفصال.

إن الأزمة الاقتصادية أصبحت حقيقة ماثلة أمام الأعين، ولا مجال لإنكارها أو اعتبارها من نسج المعارضين كما يحلو لبعض أنصار النظام القول. لذلك بدأ عدد من قيادات النظام يقرون بها، وبالآثار السالبة لانفصال الجنوب، بعد أن كانوا ينكرون حتى وقت قريب وجود أي تأثيرات سلبية للانفصال، بل اعتبروه خيرا على البلاد والعباد. و«الجراحة الخطرة» التي تحدث عنها والي الخرطوم لوصف الإجراءات الاقتصادية التي تنوي الحكومة تطبيقها، قد تصبح أخطر مع أجواء التململ في الداخل، والتوتر في مناطق التماس مع دولة الجنوب الجديدة، إضافة إلى التصعيد في دارفور واحتمال اشتعال الوضع في جنوب كردفان. وإذا كانت أنظار الناس مشدودة الآن إلى الانتفاضات والثورات في اليمن وسوريا وليبيا، فإن الوضع في السودان أيضا يدخل مرحلة صعبة يكون فيها مفتوحا على كل الاحتمالات.

[email protected]