اليمن خارج معادلة «الشيخ والرئيس»

TT

ظل مفهوم «السلطة» في اليمن في مرحلة الرئيس علي عبد الله صالح لغزا محيرا؛ حيث شكل الدولة الحديثة ببناها الرئيسية من دستور وأحزاب ومعارضة في مقابل مضامين سلطوية لا تنتمي إلى واقع السياسة كما يتم تداولها بالمعنى المعاصر، حيث تكرس مفهوم الشخصنة السياسية كحالة فرادة يمنية، فالسلطة تبنى على العلاقات الشخصية عبر هيبة الدولة من جهة، المستمدة بالتحالف مع سلطات أخرى منفصلة ككيانات مستقلة ومتصلة في ذات الوقت بما تستمده من منح وامتيازات هائلة من الدولة، بل وحتى من الخارج على اعتبار قوة تأثيرها في صنع القرار السياسي.

مفهوم «الشيخ» في مقابل الرئيس أو «القبيلة» في مواجهة الدولة يعد أحد أهم مفاتيح فهم الحالة اليمنية، وبكثير من التقدير والاحترام للثورة اليمنية السلمية وشباب «ساحة التغيير»، إلا أن ثبات هذه الثورة طوال تلك الفترة التي فاقت بقية الثورات العربية لا يمكن فهمه إلا بفهم هذه المعادلة، صحيح أن المكون الأبرز والأكثر تأثيرا في نوعية وكم المتظاهرين يعود إلى تفوق وتميز حزب الإصلاح الذي لعب بذكاء على طرح نفسه بصيغتين؛ الأولى سياسية ضمن أحزاب اللقاء المشترك كضاغط على النظام، والثانية ثورية من خلال وجود كوادره بشكل منظم وفاعل في ساحات التغيير وبشكل فاق كثيرا استناد الثورة المصرية على قوة «الإخوان» في الشارع، إلا أن تفوق الإصلاح رغم هذا كله لا يعود، إلا أن شرعيتها في الشارع اليمني لم تكن بسبب قناعة اليمنيين بالطرح الإصلاحي أو أفكاره، إلا أنها استطاعت توسيع ثقل القبيلة التي تنتمي إليها إلى قاعدة جماهيرية، تضم أطيافا واسعة من الشعب اليمني من مختلف المناطق دون أن تخل بالتراتبية القبلية على مستوى القيادات أو حتى الخطاب؛ حيث أسهم الكثير من منظري الإصلاح منذ بداية تأسسه في ابتلاع منطق القبيلة وتحويله إلى عامل إيجابي يصب في صالح خطابها الاجتماعي المحافظ، ولعل هذه التجربة، أي أسلمة «القبيلة»، لم تنجح فيها أي حركة من حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، التي تؤسس خطاب معظم هذه التنظيمات على رفض أي تكتلات عشائرية على اعتبار أنها جزء من الجاهلية التي يحاربها التصور الإسلامي لمكونات المجتمع.

معادلة الشيخ والرئيس اليمنية كانت تقوم على مراعاة كل جانب لخصوصيات الطرف الآخر، فللحزب الحاكم حقه في طرح رؤيته عبر أشكال وأنماط مدنية حديثة، إلا أنها لا يمكن أن تصطدم بمكون القبيلة الأساسي المبني على نظام المشيخة القائم على الولاء المطلق، ولو على حساب مفهوم المواطنة الذي يقتضي في أبسط أشكاله وصوره عدم التمييز بين أفراد المجتمع على أسس عشائرية، ومن هنا تحولت شبكة العلاقات بين السلطة والمناطق المركزية التي توجد فيها تكتلات قبلية على أساس المحاصصة السياسية والاقتصادية وحتى مراعاة الخصوصية لمنطق القبيلة الاجتماعي حتى في أبسط الأمور، كتعارض مسائل الأخذ بالثأر وتعقب الجناة مع مسألة مبدأية كسيادة القانون، فالهبات تتدفق من السلطة إلى مركزية القبيلة بحسب ما تمثله تلك القوى من أوراق ضغط، وقل مثل ذلك في المشاريع التنموية والتعيينات للوظائف الحكومية، ومن هنا يمكن فهم آلية تبادل مراكز القوى في بلد مسلح كاليمن، وفي أوضاع ثورية كهذه، دون أن تسجل حالات تمرد مسلحة أو حوادث بلطجة نوعية ومتكررة لأن الضامن لانفجار كهذا هو مدى انكسار التوازن الذي تمثله القبيلة مع السلطة، حيث العلاقة القائمة على تبادلية نفعية لحفظ النسق العام للدولة.

هل يقودنا مفتاح فهم جدلية الشيخ والرئيس إلى التشاؤم إذا ما أخذنا في الاعتبار أن غياب الرئيس شبه الحتمي سيقود إلى تعارض التوازنات أو شبكة العلاقات بين القوى الفاعلة في الواقع اليمني؟ أم أن رحيل ضابط إيقاع تلك العلاقات المعقدة يفتح الباب مشرعا إلى صيغ توافقية جديدة على مستوى إعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة وبناء الدولة وفقا لعملية تداول للسلطة وانتخابات نزيهة؟

لا مجال للجزم، إلا أن المؤشرات تؤكد أن الصراع على كعكة السلطة لن ينتهي بسهولة رغم روح المبادرة من الداخل والخارج؛ فالانتقال من نظام الهبات الذي يوزع بشكل حصص تناسب حجم التأثير والقوة على الأرض؛ إن على قبائل العاصمة أو المناطق ذات الكثافة القبلية وصولا لمناطق الأطراف الأكثر تهميشا وفقرا؛ هذا إذا ما ظل الجنوب ينتظر نهاية معركة معادلة الشيخ والرئيس ليقرر موقفه من يمن جديد ومختلف.

في اعتقادي أن كلمة الفصل ستكون للاقتصاد إذا ما علمنا أن الانهيارات السياسية التي كانت متوقعة من كثير من الخبراء منذ سنوات كثيرة لم تكن لأسباب تتصل بمسألة استئثار علي عبد الله صالح بالسلطة أو تلويحه بالتوريث أو هشاشة مؤسسات الدولة، فهذه وإن كانت عوامل مؤثرة إلا أن الأهم والأكثر تأثيرا هو الحالة المفزعة التي آل إليها الاقتصاد اليمني، فهو الأفقر في العالم العربي بمعدل بطالة يطال الأربعين في المائة في ظل خيارات ضئيلة لتنمية مستدامة حقيقية، كما أن ملف المياه القريب من النفاد بشكل جدي بسبب سوء إدارته وغياب السيطرة على الموارد وفوضى ملف المساعدات الدولية التي للأسف كانت تتعامل مع الملف اليمني بكثير من التحيز، حيث تغليب الدافع الأمني على التنموي بسبب «القاعدة» وضعف انعكاس المشاريع على المواطن اليمني بسبب ملف الفساد.

الأكيد في هذا كله أن اقتصاد اليمن المنهار سيلغي ثنائية الشيخ والرئيس ليصبح رحيل الرئيس اليمني، على ما فيه من اعتبارات معنوية كبيرة وإنعاش للحالة السياسية، كما أن دعم العمل المدني والمؤسسات والتداول السلمي للسلطة بما يحمله من إضعاف لسلطة القبيلة ومركزيتها، كل ذلك، لا يعني تعافي اليمن إذا لم يتم بالتزامن مع ذلك كله وضع خطط سريعة وعاجلة لرفع مستوى معيشة الفرد اليمني، حيث من المقدر أن يرتفع عجز الموازنة في هذه السنة إلى ما يزيد على 3 بلايين دولار في بلد لا يبلغ متوسط دخل الفرد فيه أكثر من 1200 دولار في السنة محاطا بأسوأ معدلات التنمية البشرية في المنطقة على الإطلاق، كما تذكر الإحصاءات التي تنشرها مراكز الأبحاث، حيث تقف هذه الأرقام المفزعة جنبا إلى جنب مع معدل نمو يزيد على 3 في المائة، حيث يتوقع أن يصل عدد السكان إلى ما يزيد على 40 مليون شخص بحلول 2030!

معضلة اليمن هي في إقامة شرعية سياسية جديدة خارجة عن منطق الصراع بين مراكز القوى، هذه الشرعية تبنى على أساس المواطنة التي تحققها صيغة توافقية تمثل كل أبناء اليمن من أقصى جنوبه إلى شماله، يتزامن ذلك مع إقامة اقتصاد منتج يقوم على خطط سليمة لمعالجة الفقر وإدارة الموارد العامة، وهذه مسؤولية لا يمكن فقط لدول الجوار أو البنك الدولي أن ينوء بحملها بقدر أن يتم تعاون كل أطراف المجتمع الدولي لإنقاذ اليمن الذي يقف على حقل ألغام من التحديات.

[email protected]