الكتابة للصوص

TT

جاءني شخص ليهديني كتابه الذي اتخذ له عنوانا من واحد من مقالاتي، وكلكم يذكر مقالي المعروف على صفحات هذه الجريدة منذ سنين بعنوان «جماعة بن لكن» الذي اتخذه صاحبنا عنوانا لكتابه. استغربت كثيرا عندما قرأت ما كتبه الرجل الذي أهدى إلي نسخة من كتابه، مكتوب على أول صفحة داخلية بيضاء في الكتاب: «إلى الرجل الذي صك مصطلح (بن لكن)... وكان الملهم لهذا الكتاب... إلى الدكتور مأمون فندي، عرفانا بالجميل».

انفرجت أساريري لأنه جديد على ثقافتنا أن يعترف واحد منا بأنه تأثر بكتابات فلان أو علان، فغالبا كتّاب منطقتنا يوحى إليهم، لا يشيرون إلى كتاب اقتبسوا منه أو مفكر تأثروا به، إلا مع المفكرين الغربيين، لأنهم بعيدون عنا أو أنهم موتى، أو أن في ذكرهم استعراضا لمعرفة بثقافة لا يعرفها العامة.

دلفت إلى صفحات الكتاب باحثا عن ذلك المصطلح الذي أصبح عنوانا للكتاب، وعن اسمي فيه، كهامش على متن، فلربما اقتبس المقال كله أو اقتبس مقالات أخرى، وكيف عالج المسألة برمتها، ولكن لهول المفاجأة وبعد تصفح ما يقرب من مائتي صفحة لم أجد إشارة واحدة لا إلى مقالي ولا إلى اسمي في الكتاب، الإشارة الوحيدة هي التي كتبها صاحبنا بخط يده، أي أن صاحبنا أرضاني بالكتابة بخط اليد، وسرق جهدي في الكتابة التي يقرأها الجميع في النص الأصلي، أي يسرقك في ميدان عام ويصالحك في حارة، أو يشتمك كتابة على الملأ ويعبر لك عن إعجابه بك في مكالمة تليفونية خاصة. لم أكن لأصدق نفسي أن الخبث والتلاعب وعدم الأمانة نخرت في ثقافتنا إلى هذا الحد الذي يتحول فيه المثقف الداعي إلى التغيير والإصلاح على الشاشات وعلى صفحات الصحف إلى لص ثقافي.

لو كانت القصة مرتبطة بسرقة مقال لما ذكرتها، ولكنها أصبحت ظاهرة وبفجور شديد، وعيني عينك، أي أن ينشر صاحبك فكرتك في ذات الصحيفة في اليوم التالي دونما حياء. منذ فترة كنت في القاهرة والتقيت لأول مرة بالكاتب الساخر جلال عامر، وهو رجل طيب غير مدّعٍ، يكتب ملاحظاته عن المجتمع المصري بخفة دم نادرة، قد لا يكون بها من العمق ما يرضي من يدّعون الثقافة في مجتمعاتنا، ولكن كتابته هي بصمته، أي لا يكتبها سواه، لأنها تستقي معرفتها من تجربته الإسكندرانية الخاصة، ووجدت أكثر من كاتب في ذات الصحيفة التي يكتب بها عامر يعيدون ما كتب «ويستخفّون دمهم» دونما إشارة إلى الرجل أو ما كتب. كان الرجل حزينا، ولكن مصر الثورة وما قبلها لن تنصف الرجل، لأن السرقة والبلطجة أصبحت سمة من سمات المجتمع، ثار الناس على مبارك، ولم يثوروا على أخلاق نظامه.

أما ياسر عبد العزيز الكاتب بـ«المصري اليوم»، الذي قابلته لأول مرة، فقال لي: «إنني مدهوش من كمية السرقة إلى تحدث لكتاباتك دونما الإشارة إليك!»، قلت له: «معلهش، المهم هو انتشار الفكرة لا الشخص»، فرد قائلا: «ما يدهشني هو أن هؤلاء يسرقون ما تكتب عن الصعيد، وهي تجربة خاصة. يكتبون عن أقاربك الذين ذكرتهم في مقالاتك، وكأنهم أقاربهم. ولما قرأت لأحدهم نصا مسروقا منك قلت له هذا قريب مأمون فندي، وليس قريبك أنت، ولم يستحِ الرجل، فقط ابتسم ابتسامة صفراء».

لم أحزن لأنه سرق ما كتبت، ولكني حزنت لأنه سرق أقاربي أيضا. المشكلة في كل هذا بالنسبة لي ليست شخصية بقدر ما هي حالة الانهيار الأخلاقي السائدة في البحث العلمي وفي الثقافة التي بدأت تسود مجتمعاتنا، فلا يستقيم للعقل أن ندعي الثورة في الشارع، ونهمل الثورة في الرؤوس، إننا نحتاج إلى ثورة على الأخلاق المنحطة التي بدأت تضرب في نفوس وأرواح وعقول من يدعون الثقافة بيننا، وهم في الحقيقة لصوص.

لفت نظري مسألة سحب الجوائز من الكتب المسروقة في عالمنا العربي، وهي بداية جيدة على الطريق الصحيح، ولكن هذا أمر نادر الحدوث، فهل لنا من تأسيس منظمة أو مؤسسة للجودة في الكتابة تحارب الغش والغشاشين في العلن وعلى الملأ من خلال إعادة إنتاج الآخرين في الصحافة والتلفزة وادعاء ملكيتها.

الظاهرة استشرت في العواصم الكبرى، وخصوصا في قاهرة المعز، نوع من البلطجة الثقافية، فحتى لو قلت لمن سرقك إنه قد سرقك وقلتها بأدب حتى لا تحرجه، فتح حنجرته وادعى أنك أنت السارق، وأنه هو ابن هذا الوطن، وانت «اللي كنت بره وتقبض بالدولار»، ولا أدري ما هي علاقة أن «تقبض بالدولار» بالسرقات العلمية والثقافية. طبعا، لأي عاقل، من يعمل في أميركا لا بد وأنه يقبض مرتبه بالدولار، لأن المؤسسات الأميركية لا تدفع لمواطنيها بالجنيه المصري.

آن لنا أن نتحلى بأخلاق الثورة، وآن لنا أن نقيم ثورة في العقول، فالثورة في الشوارع ليست كافية للتغيير إن لم تتغير الأخلاق ولم يتغير ما في الرأس.