سوريا.. الحل بانقلاب إنقاذي يكون مرحلة انتقالية!

TT

عندما تقترب الانتفاضة السورية، الباسلة حقا، من نهاية شهرها الثالث، وعندما يفشل القمع الأهوج الذي استخدمت فيه الدبابات ومختلف الأسلحة وكل الأساليب التي استخدمت في أبشع الديكتاتوريات التي عرفها التاريخ الحديث والقديم قسوة في القضاء عليها ومنعها من أن تتحول من شرارة بدأت في مدينة درعا في حوران، التي كانت توصف بأنها أهراء روما، إلى هذه النيران المتأججة كلها التي شملت سوريا كلها من أقصى الشرق حتى أقصى الغرب ومن أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال.. كان الخطأ القاتل الذي ارتكبه الرئيس بشار الأسد أنه استمع إلى نصيحة المحيطين به بأن عليه أن يواجه شرارة الثورة التي بدأت في درعا بقسوة قمع أحداث حماه في عام 1982، وكان عليه أن يستحضر حكمة معاوية بن أبي سفيان القائلة: «والله لو أن بيني وبين الناس شعرة لما قطعتها، فإن هم شدوها أرخيتها وإن هم أرخوها شددتها» في التعامل مع هذه الأحداث في بدايتها قبل أن تسقط هذه الأعداد كلها من الشهداء والجرحى وقبل أن يساق عشرات الألوف من أبناء الشعب السوري إلى السجون والزنازين والأقبية السرية.

في الخامس عشر من مارس (آذار) الماضي، أي بعد أسبوع من الذكرى الثامنة والأربعين للانقلاب الذي جاء بحزب البعث إلى الحكم، كانت هناك إمكانية كبيرة لتنفيس الاحتقان ولاحتواء هذه «الثورة» قبل أن تصبح عارمة ومن غير الممكن السيطرة عليها على الرغم من استخدام هذا العنف كله وهذه القسوة كلها، ويقينا لو أن الرئيس بشار الأسد لم تأخذه العزة الخادعة بالإثم ولو أنه لم يركب رأسه ولو أنه بادر إلى الذهاب إلى درعا قبل أن تتفاقم الأمور وتصبح الشرارة نيرانا متأججة عارمة واستجاب إلى مطالب أهلها وأولها تعليق الذين ارتكبوا تلك الجريمة الأمنية التي ارتكبوها ضد عدد من الأطفال الأبرياء على أعواد المشانق لما حصل هذا الذي حصل كله.

لو أن بشار الأسد لم يتبع، إزاء «شعبه»، سياسة الضحك على الذقون، ولو أنه بدل اللجوء إلى «ماكياج» إصلاحي واتخاذ إجراءات إنشائية، حاول من خلالها التلاعب بشعب ذكي لديه مخزون هائل من تجارب التاريخ، بادر إلى الإعلان عن إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة وعن أنه لن يترشح مرة أخرى لهذه الإجراءات الرئاسية، ولو أنه لم يكتفِ بمجرد الاستبدال بحكومة حكومة أخرى لها اللون نفسه والتركيبة نفسها، ولو أنه ألغى البند الدستوري الذي ينص على احتكار حزب البعث لقيادة المجتمع والدولة لبقيت شرارة درعا في درعا ولما تحولت هذه الشرارة إلى نيران هائلة امتدت ألسنتها إلى سوريا كلها ولما تجاوزت هتافات المنتفضين المطالب الإصلاحية المقبولة والمعقولة وأصبحت دعوة عامة لإسقاط النظام كله برئيسه ورموزه كلها وكل ما فيه.

لقد اكتشف الشعب السوري، فورا وتلقائيا، أن الاستبدال بحكومة العطري هذه الحكومة الحالية، التي توصف بأنها بلا لون ولا طعم ولا رائحة، هو مجرد مناورة محدودة الأفق وبائسة، وأن إلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية واستبدال قانون «الإرهاب» به لم يغير في الأمور شيئا، بل إنه زاد الطين بلة، كما يُقال، وأن تشكيل لجنة من علية القوم واجهتُها فاروق الشرع ونجاح العطار لوضع تصور للإصلاحات المطلوبة هو كبيع «الميّه في حارة السقايين»، وأن الحوار الذي أجرته بثينة شعبان هو لاجتذاب الأضواء من الخارج بعيدا عن الحدث الحقيقي الذي تنقل في البداية بين عدد من مراكز التوتر في البلاد ثم ما لبث أن عم مناطق سوريا كلها.

عندما يلجأ النظام إلى منع وسائل الإعلام العربية والعالمية من تغطية الأحداث كشاهد محايد، وعندما يقذف شاشة التلفزيون الحكومي بـ«فبركاته» وتشاطره وبراعته في استخدام اللغة العربية «المقعرة» في وجوه مشاهديه، وعندما يمنع هيئات حقوق الإنسان من الوصول إلى ميادين المعارك التي استخدمت فيها الدبابات والمدافع الثقيلة واستخدم فيها الرصاص الحي حتى ضد الأطفال لنقل الصورة الحقيقية، فإنه في حقيقة الأمر يؤكد أنه عقد العزم منذ البدايات على ارتكاب جرائم أبشع من التي ارتُكبت في حماه في عام 1982 والمعروف أن ارتكاب الجرائم يقتضي في العادة إبعاد الشهود وإطفاء الأضواء وفقء عيون كاميرات الفضائيات.

كان على «جهابذة» النظام الذين ورطوه في هذه «اللعبة» القاتلة أن يدركوا وأن يفهموا أن تغييب وسائل الإعلام، التي إذا كان بعضها منحازا وصاحب «أجندة» معادية لنظام الرئيس بشار الأسد وعائلته، فإن مما لا شك فيه أن بعضها الآخر محايد وأنه يبحث عن الحقيقة، يجعل «شهود العيان» هم المصدر الوحيد للمعلومات ويجعل المتابعين للمشهد عن بعد لدى المقارنة بين «فبركات» الإعلام السوري، المتخلف شكلا ومضمونا، الذي لا يزال يرابط في دائرة «أكذب ثم أكذب»، فإن الناس سيصدقونك في النهاية، وبين روايات شهود العيان هؤلاء يأخذون بهذه الروايات انطلاقا من أنها مهما بالغت فإنها لا بد من أن تنقل بعض الحقائق وبعض المعلومات الصحيحة.

والآن وقد وصلت الأمور إلى هذا المستوى من التعقيد، فإن السؤال الذي بات يطرح نفسه على الأوساط المتابعة من الخارج ومن الداخل وفي كل مكان هو: ما الحل؟ وأين تتجه سوريا بعدما أصبحت العودة إلى الوضع السابق مستبعدة وغير ممكنة بأي صورة من الصور وأي شكل من الأشكال؟!

وردا على هذين السؤالين وعلى أسئلة كثيرة غيرهما، فإن هناك من يعتقد أنه حان وقت الانقلاب العسكري الإنقاذي الذي كان متوقعا منذ البدايات، والذي لو أنه لم يتأخر هذه المدة كلها لما تعقدت الأمور على هذا النحو، ولما وقعت هذه الضحايا كلها من شهداء وجرحى ومعتقلين ومشردين وفارين من بلدهم إلى الدول المجاورة ولما خسرت سوريا هذه الخسائر كلها، التي يحتاج تعويضها إلى سنوات طويلة من الاستقرار والبذل والعطاء، وهذا كله في بيئة نقية وظروف ملائمة وحاضنة وديمقراطية.

كان الاعتقاد بمجرد أن أرسل النظام دبابات الفرق العسكرية، المشكلة تشكيلا طائفيا وعائليا يرفضه السوريون بمختلف طوائفهم ومذاهبهم ومنابتهم وأصولهم وأعراقهم ومن بينهم غالبية أبناء الطائفة العلوية التي هي متأذية بدورها مثلها مثل باقي مكونات الشعب السوري، لتقتل وتذبح وترتكب جرائم مثل جريمة حماه 1982 وأبشع أن يبادر عدد من الضباط الوطنيين ومن مختلف الطوائف أيضا للإطاحة بهذا النظام وتسلم مقاليد الأمور لفترة انتقالية على غرار ما جرى في مصر وتونس يتم بعدها الاحتكام إلى صناديق الاقتراع على أسس ديمقراطية لتدخل سوريا مسارا جديدا غير ذلك المسار الذي دخلته مع بداية ظاهرة حكم الثكنات الذي أوصلها إلى هذه الأوضاع المزرية التي وصلت إليها.

إن المؤكد بعد أن وصلت إلى هذه التعقيدات كلها أن البديل المكلف، بل والمدمر، في حال استمرت سوريا بالسير على هذا الطريق الذي غدت تسير عليه بعد أن أصبحت العودة إلى ما كانت عليه الأمور مستبعدة وغير ممكنة إن على صعيد النظام وإن على صعيد الشعب، هو أن يصبح التقسيم، في ظل إصرار المجموعة الحاكمة على مواصلة الذبح والتقتيل وعدم الرضوخ لإرادة شعب أظهر قدرة فائقة على البذل والعطاء والإصرار حتى الوصول إلى ما يريده، هو الخيار الذي لا خيار غيره، وهذه في حقيقة الأمر «أم» الجرائم التي سينتهي مرتكبها ذات يوم في قفص الاتهام أمام محكمة التاريخ؛ حيث سيدفع الثمن الذي يعادل الوصول بهذا البلد العظيم إلى الخراب والتشظي.