المشكلة الأخطر

TT

أراقب بمشاعر مختلطة ما بين الحزن والأسى والألم والعجب، حجم الدماء المهول الذي يسيل بشكل يومي في مدن وقرى المدن العربية، دماء الشعوب تراق بشكل همجي من قبل جيوش بلادها، تلك الجيوش التي دججت بالسلاح والعتاد عبر السنوات على حساب التعليم والصحة والطرق، وتسببت هذه الأولويات المعكوسة في أن يحرم الشعب من وسائل وعناصر العيش الكريم في سبيل قضية الأمن والدفاع عن فلسطين. فلا تحقق الأمن ولا حررت فلسطين! بل كان الاستبداد يكرس وفلسطين تضيع بالتدريج.

واليوم نرى ونسمع ونقرأ عن مشاهد الترويع والتعذيب والقتل والدهم الهمجي من جيوش وقوات الأمن في اليمن وسوريا وليبيا على المواطنين بشكل أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه وحشي، وتكشف هذه الأحداث حقيقة ازدراء واحتقار بعض الزعماء العرب لشعوبهم واعتبارهم ملكية خاصة لهم و«أصولا» آلت إليهم ملكيتها، فهم نادرا جدا ما يوجهون حديثهم لشعوبهم لقناعتهم الداخلية بأن شعوبهم أسعد شعوب الأرض بأن لديهم حكاما مثلهم، وبالتالي من غير الوارد أن تكون هناك شكوى من نقص أو احتجاج على وضع ما، وكل وعود الإصلاح وتفاصيله عادة ما تكون لصالح برامج إعلامية تابعة لوسائل غربية وتكون مليئة بالوعود والتفاصيل التي لا يسمع عنها الشعب شيئا بعد ذلك أبدا.

إنها حالة من التعجرف والكبر والتسلط، التي تولد الازدراء، تتطلب من علماء النفس دراستها وليس علماء السياسة فحسب. هي نفسها الحالة المسيطرة على شخصية الزعيم الليبي معمر القذافي حتى لحظاته الأخيرة في الحكم وهو يدمر بلاده ولا يزال يعتبر أن شعبه الثائر عليه هم مجموعة من الحثالة ويخاطبهم بازدراء «من أنتم؟!»، ويعتبرهم جرذانا وفئات مسلحة.

وبن علي رئيس تونس من قبله تعامل مع شعبه بنفس الأسلوب، وها هو نفس المشهد يتكرر بأسلوب فج ومرعب في سوريا واليمن بأشكال مختلفة، ويتم التعامل مع المعتصمين طالبي الكرامة والحرية بأسلوب أشبه بأسلوب التعامل مع الذباب والناموس، بمعنى قتل أكبر عدد ممكن منهم.

هذه الذهنية الإدارية في التعامل هي التي تكسر النفس وتذلها وتجعل انتفاضة الغضب عارمة لا عودة عنها مهما خرجت أبواق الدفاع والتبرير ورصاصات الغدر والتدمير للدفاع عن أنظمة هشة ومستبدة وفاسدة، لأنها سوف تكون لحظة خالدة بلغة شكسبير لحظة «أكون أو لا أكون»، ولذلك هذه الأنظمة، التي لم تراع آدمية ولا كرامة شعوبها، فقدت هيبتها ومكانتها واحترامها في عيون مواطنيها وكان بالتالي خط اللا عودة في التعامل معهم.

خطر عظيم تقع فيه الأنظمة سهوا، ولكن في الغالب عمدا، حين تربط البلاد بشخصية الحاكم. فرق كبير بين الأوطان والشعوب ومن يأتي عليها للحكم، كلها كيانات مختلفة ومستقلة وذات اعتبارات منفصلة، ارتباطهم في بوتقة واحدة طالما كان العقد الاجتماعي موجودا ومحققا.

التدخلات الغربية التي تحدث اليوم في شأن الدول العربية هي نتاج سكوت المنظمات والحكومات العربية عن المجازر التي تقع في بلادها، وذلك لأسباب خاصة ومصالح خاصة فضحت أمام العالم اليوم، وانتقل زمام الأمور كالعادة للغير، وأصبح «الضمير» على ما يحدث منطلقا من تركيا وفرنسا وإنجلترا وأميركا، وذلك في استمرار الصمت العربي الرسمي والشعبي المشين على ما يحدث «لإخوانهم» من العرب والمسلمين، وكأن الدم الفلسطيني حين يراق من إسرائيل هو وحده الذي يستحق أن يتم الاحتجاج عليه والبكاء لأجله والتفاعل معه.

ما يحدث الآن على الساحة العربية هو مشهد كاشف وفاضح للتناقضات العربية التي تحياها شعوبها وحكوماتها، «وشطارتها» على الاستبداد والجرم الإسرائيلي، وانكسارها تجاه ما يفعله النظام العربي بحق شعوبه. إنها أزمة نفسية وكذلك أخلاقية تخجل وتعيب. المشكلة ليست فقط في أنظمة تبيد شعوبها، ولكن المشكلة الأكبر أن هناك شعوبا وحكومات شقيقة تسكت عن ذلك.

[email protected]