لا.. للانتحار المجاني

TT

إذا كان يجوز التغاضي عن المحاولة الفلسطينية الأولى لاجتياز خطوط الهدنة مع إسرائيل بمظاهرة سلمية تحيي الذكرى الرابعة والأربعين لـ«النكسة»، فما لا يجوز السكوت عنه، بعد حصيلة المظاهرة الأولى التي تحولت إلى مجزرة دامية، هو تكرارها بالشكل المتهور الذي تمت فيه والتسبب بمجزرة ثانية في أقل من شهر واحد.

بعد أن نشرت إسرائيل كتيبتين عسكريتين على هضبة الجولان، وبعد أن وضع الجيش الإسرائيلي صفا ثانيا من الأسلاك الشائكة على خط وقف إطلاق النار، وبعد أن أصدر رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تعليمات واضحة للتصدي بـ«حزم» لأي محاولة لاختراق الأسلاك الشائكة.. كان متوقعا أن تتحول المسيرة الثانية في ذكرى النكسة إلى مجزرة أدهى من المجزرة الأولى.

ما لم يكن متوقعا ألا يستنتج الجانب الفلسطيني العبر من التجربة السابقة ولم يمض عليها سوى بضعة أيام. (في هذا السياق لا بد من التنويه بإجراءات الجيش اللبناني، من جهة، وحركة حماس من جهة أخرى، التي حالت دون قيام مسيرات مماثلة ووفرت على الفلسطينيين مجزرتين مفترضتين في جنوب لبنان وقطاع غزة).

أن يسقط بنيران القوات الإسرائيلية فوق هضبة الجولان أكثر من عشرين شابا فلسطينيا وسوريا عزلا من أي سلاح كان، ما خلا إيمانهم بعدالة قضيتهم، عملية أقرب إلى الانتحار المجاني منها إلى أي شكل من أشكال المقاومة المشروعة، والمجدية، للاحتلال الإسرائيلي.

إذا كان القصد من المظاهرات السلمية إثارة انتفاضة فلسطينية شعبية في وجه الاحتلال الإسرائيلي منطلقة من مناخات الانتفاضات العربية الشبابية، فإن الساحة الطبيعية لانتفاضة كهذه هي الأراضي المحتلة لا خطوط الهدنة أو وقف إطلاق النار.. إلا إذا كانت أهدافها المبطنة تسخين خط «الحدود» السورية–الإسرائيلية لغايات أقل ما يقال فيها إنها لا تمتُّ، من قريب أو بعيد، إلى القضية الفلسطينية. لكن السؤال يبقى: هل رخصت الأرواح إلى هذا الحد كي تصبح بيادق في لعبة شطرنج إقليمية؟

أما إذا كان القصد من المسيرات السلمية تصعيد مقاومة سوريي الجولان المحتل – مدنية الطابع حتى الآن–للاحتلال الإسرائيلي، فإن توقيت هذا التصعيد في عهد حكومة نتنياهو الشوفينية قد يسفر عن نتائج مأساوية أقلها إقدام حكومة نتنياهو على تهجير ما تبقى من سكان الجولان من أراضيهم، وبذلك القضاء على آخر ما تبقى من مظاهر عروبة الجولان.

أما إذا كان القصد من المظاهرات تحريك الرأي العام الدولي الساهي عن أهمية التسوية السلمية في الشرق الأوسط فقد كشفت ردود الفعل الدولية عن أن مواقفه لا تتجاوز نطاق الإعراب عن «الأسف» لسقوط القتلى والدعوة إلى «ضبط النفس»، بينما ذهبت الولايات المتحدة إلى حد اعتبار مظاهرة الجولان «استفزازا» سوريا لإسرائيل، متناسية أن الأسرة الدولية بأكملها لا تعترف باحتلال إسرائيل لهضبة الجولان، وبالتالي لا يمكنها اتهام مسيرة الجولان بخرق «سيادة» إسرائيل على أرض سوريا، جغرافيا وتاريخيا.

مظاهرات الجولان، ومن قبلها جنوب لبنان، أظهرت أن النكسة الحقيقية التي يعيشها العالم العربي اليوم تعود إلى غياب خطة التحرك الموحدة لإعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة اهتمامات الأسرة الدولية. وإذا كان من المسلم به أنه لا يموت حق وراءه مطالب.. فذلك لا يعني إهمال «أسلوب» المطالبة بهذا الحق بحيث لا يغمط المطالب حقه ولا تهدر دماؤه مجانا.

من هذا المنطلق، يصعب التقليل من أهمية «الترسمل» على انتفاضة فلسطينية سلمية واسعة داخل الأراضي المحتلة من شأنها أن تطرح، بإلحاح، موضوع البدء بتنفيذ استحقاق «الدولتين»–أي الاستحقاق المعتمد أميركيا وغربيا كتسوية معقولة للنزاع الفلسطيني–الإسرائيلي.

انتفاضة كهذه قد تحرج الإدارة الأميركية، من جهة، وتكشف في السياق نفسه، ليس فقط عن رفض حكومة نتنياهو لأي تسوية سلمية لنزاع الشرق الأوسط، بل أساليبها القمعية في مواجهة انتفاضة شعارها: أميركي الأصل والفصل.