التغيير العربي وأنظمة الوظائف والبدائل

TT

لا يختلف النظام السوري قيد أنملة عن الأنظمة العربية المتساقطة. فقبل أن تبدأ المظاهرات في سوريا، كان الرئيس الأسد قد صرح لصحيفة «وول ستريت جورنال» بأن نظامه مختلف عن نظامي بن علي ومبارك ولسببين: أنهما حليفا الولايات المتحدة، وهي تتخلى عن حلفائها الآن، وأن نظامه نظام شعبي محبوب ومدعوم من الناس، وحزب البعث الحاكم حزب عقائدي (!).

وهذا الأمر ذاته قاله قبله القذافي، وقاله بعده علي عبد الله صالح: لا ثورة شعبية ولا يحزنون، بل مؤامرة أميركية على هذه الأنظمة العقائدية العظيمة والصلبة والمقاومة. والمطلوب الصمود في وجه المؤامرة بمواجهة المتظاهرين (تحت اسم المندسين والمتسللين) بالعنف، من طريق القوى الأمنية والجيش إن أمكن. وبخلاف القذافي؛ فإن الرئيس علي عبد الله صالح والرئيس بشار الأسد، أقاما فرقا نظريا دقيقا بين فريقين: المتظاهرين المسالمين المطالبين بالإصلاح، والمندسين والمتدخلين بدفع من جهات سياسية خارجية أو داخلية؛ وهؤلاء يمارسون العنف والإرهاب ضد القوى الأمنية والمتظاهرين معا!

بيد أن أهم أسباب الصمود لدى الأنظمة الثلاثة، جاءت من الخارج، وليس من استخدام العنف بالداخل. بل الأحرى القول إن استخدام العنف ضد المتظاهرين ومنذ البداية في تونس هو الذي سرع من تآكل شرعية النظام، وعجل ويعجل في سقوطه.

وهكذا فإن الأنظمة الجمهورية الوراثية، تهتدي في مسألة العنف الداخلي بسلوكيات ماضية ما عرفت أن أوانها انقضى، وأن استخدامها ما عاد ممكنا. ففي ليبيا وسوريا وتونس حصلت انتفاضات ومظاهر احتجاج من قبل، وجرى القضاء عليها بالقوة، دون أن يتأثر النظام. فما الذي تغير حتى ما عاد العنف الفائق قادرا على الفعالية والإرهاب؟ هناك عدة أسباب: انسداد الأفق تماما أمام فئات شعبية واسعة لتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وتجرؤ الأنظمة الجمهورية (الثورية سابقا) على درجات من الفساد والتوريث وحكم الأقارب وإذلال الناس، بحيث لم يعد شيء من ذلك محتملا.

وتغير السياسات الدولية بالمنطقة. وظهور وسائل اتصال جديدة للتنظيم والتجمع. واطمئنان الأنظمة إلى أن أحدا بالداخل أو الخارج لن يهددها؛ وذلك بسبب نجاح الرئيس حافظ الأسد في توريث ابنه، والانكفاء الظاهر للولايات المتحدة أيام الرئيس أوباما. إنما ينبغي أن ندقق في هذا الأمر، أي تغير السياسات الدولية، أو إعراض أوباما عن استخدام العنف الذي استخدمه بوش، وهو ما فسره الرئيس بشار الأسد بأنه تخل من الولايات المتحدة عن حلفائها وهو ليس منهم! إذ الواقع أن الرئيس بوش الابن ما كان يستخدم العنف أو الضغوط ضد نظام الرئيس مبارك، بل ضد خصوم النظام، ممن يتهمهم بالإرهاب أو لا يطمئن إلى مشاركتهم السياسية رغم عدم لجوئهم للعنف.

والواقع أيضا أن الولايات المتحدة بحروبها الهائلة إنما أنهكت التمرد الإسلامي (وصولا لقتل بن لادن) كما أنهكها. وما كان أوباما يستطيع غير تجربة القوة الناعمة. وهذا الأمر هو الذي غر وغرر بالأنظمة الوراثية وعلى رأسها نظام الرئيس الأسد. فقد أيقن الرؤساء وإخوتهم وأقاربهم أنه ما عاد هناك تحد من أي نوع؛ مع استمرار وجود الأوراق الخارجية أو الاعتماد على العلاقات والوظائف الخارجية في ضبط الداخل.

وقد كان من الطبيعي ما دام الرئيس أوباما قد تخلى عن استخدام «الحرب على الإرهاب» مثل بوش، أي ضد المتمردين الإسلاميين، والإسلام السياسي بشكل عام، ألا يستخدم القبضة العنيفة لنصرة الأنظمة أيضا عندما بدأ الاضطراب عليها. ولذا فليس صحيحا ما يقوله الرؤساء الأسد والقذافي وصالح، من أن الولايات المتحدة تآمرت أو تتآمر عليهم؛ بل إنها كفت عن نصرتهم. ولو أن إدارة بوش كانت لا تزال قائمة، لربما خافت من استيلاء «القاعدة» إذا ذهب صالح، أو استيلاء «الإخوان» إذا ذهب مبارك أو الأسد.

ومع ذلك؛ فإن التحالفات الخارجية للجمهوريين الوراثيين الثلاثة، وعدم وجود عدو خارجي لهم، هو الذي مكنهم من الصمود حتى الآن، وكلف شعوبهم أعباء قاسية. وقد كان ذلك واضحا منذ البداية. فقد قال كل من صالح والقذافي (في تصريحات واضحة)، والأسد (من خلال ابن خالته وأنصاره وحلفائه في لبنان والعراق) إنهم لن يذهبوا إلا بحرب أهلية، وتخريب وانقسام لبلدانهم، وفي حالة سوريا إضافة لذلك: التوريط في حرب مع إسرائيل! فإذا كان استخدام العنف المفرط ضد الناس، ما عاد نافعا في إخماد الاحتجاجات؛ فإن العلاقات الخارجية لهذه الأنظمة أخرت سقوطها حتى الآن، رغم حلول أجلها. إنها مثل النبي سليمان بحسب القرآن؛ فقد مات جالسا متوكئا على عصاه، وما درى أحد بذلك حتى أكلت الأرضة العصا(!).

وهناك فرق بين أمرين: افتقاد الوظائف، وحضور البدائل. فقد فقدت الأنظمة الجمهورية الوراثية وظائفها بالنسبة للنظام الدولي، لكن الأميركيين ما تحولوا ضدها حقيقة لأنهم ما وجدوا بدائل حاضرة. وهذا لا يعني أنهم كانوا متأكدين من البدائل في تونس ومصر، لكنهم اطمأنوا نسبيا إلى الجيش هناك، وهنالك ووحدته وضماناته.

وما عاد النظام الليبي ضروريا في منطقة جنوب المتوسط بعد سقوط النظامين في تونس ومصر. والنظام الجزائري على الطريق، وإن يكن يعظم من شأن نفسه بسبب «القاعدة» والإرهاب. وعندما ذهب بوتفليقة إلى قمة الثماني، إنما كان يريد المساومة على تمديد عمر النظام في مقابل التخلي عن نظام القذافي، الذي أطال عمره الدعم الجزائري والأفريقي. كما أطال عمره عدم الاطمئنان الكامل إلى المجلس الوطني الانتقالي.

وما عاد الدوليون أو الخليجيون بحاجة إلى نظام علي عبد الله صالح لمكافحة «القاعدة» أو الحوثيين؛ فهو إنما كان يقوم بذلك ليظل ضرورة. لكنهم احتاروا بين التحرك الشبابي المليوني، وأحزاب اللقاء المشترك. ولذا فقد يختارون بالفعل تسريع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لتكوين السلطة الجديدة؛ وهو الأمر غير المتوافر في ليبيا. أما النظام السوري فقد جرب من أجل البقاء حتى الآن ثلاثة أمور كلها تتصل بالعلاقات الخارجية والوظائف والبدائل. وأول هذه الأمور: إرسال رسالة للأميركيين والإسرائيليين على الحدود مع الجولان، لإثبات فائدته بالنسبة لهم، كما كان عليه الأمر منذ عام 1974.

وقد رد الطرفان بأن الابتزاز ما عاد مفيدا، وأنهم يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ولا حاجة لديهم لدعمه. ثم إنهم جربوا مسألة التعاون مع وكالة الطاقة الدولية بشأن ملفهم النووي. وحتى الآن ليس لهم خصم دولي مصمم، ولا حتى إقليمي أو عربي. وعندهم حلفاء أقوياء: الإيرانيون وحرسهم الثوري، وحلفاؤهم بالعراق ولبنان. والمعروف أن الإيرانيين يعتبرون النظام السوري حليفا استراتيجيا، وستضطرب عليهم الأمور بلبنان وربما بالعراق إن سقط أو تغيرت سياساته.

وفي لبنان–أكثر من العراق–تراكبت مصالح فئات متعددة عبر عدة عقود مع مصالح النظام السوري. ولذلك التقى منذ عدة أسابيع ولمصلحة تطويل عمر النظام هناك أمران: عدم وجود خصم إقليمي أو دولي مصمم، ووجود حلفاء أقوياء في إيران والعراق ولبنان. وهذان العاملان ما كانا لينفعا كثيرا لو وجد البديل ذو الصدقية. وقد اجتمع معارضون سوريون بأنطاليا التركية، لكنهم أدركوا أنهم جهة أو جهات دعم للثورة السورية، وليسوا قيادة لها. ولذا تبقى التكلفة عالية على الشعوب العربية التي تسعى للتغيير في ليبيا واليمن والجزائر وسوريا والسودان؛ للافتقار إلى البديل، رغم حلول آجال الأنظمة فيها!