و«المَلَكِيَّات».. منها الصالح ومنها الفاسد

TT

كما ناقشنا في الأسبوع الماضي (الأنظمة الجمهورية) بموضوعية وعدالة، نناقش في هذا المقال (الأنظمة الملكية) بموضوعية وعدالة أيضا.. ومن الناس من يقفز فيقول: إن الأنظمة الملكية هي الأفضل بإطلاق، على ما فيها من أخطاء. ومنهم من يقفز أيضا فيقول: إن الأنظمة الملكية سيئة - بإطلاق - من حيث طبيعتها وأداؤها. وهناك من يكمل القفزة بتأصيل نظريته «دينيا» فيستشهد بالقرآن: «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون».

ويتعين تطويل النفس، وإعمال المنهج في مناقشة هذه المقولة. ففي هذا الاستشهاد بالآية الآنفة «تأويل خاطئ»:

أولا: هو تأويل خاطئ، بل فاسد لأن القائل: «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها.. الآية) هو بلقيس ملكة سبأ، وليس القائل هو الله تعالى، بمعنى أن هذه هي وجهة نظر بلقيس، وليس حكما لله سبحانه، بدليل أن قول بلقيس هذا جزء من خطبة طويلة خطبتها في أكابر قومها حين ورد إليها الكتاب من سليمان بن داود - عليهما السلام - ومن فقرات خطبتها: «قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم».. «قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري».. «قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها».. في ضوء هذا، فإنه إذا صحت نسبة قولها الأخير إلى الله، فإنه يصح نسبة قولها: «أفتوني في أمري» إلى الله عز وجل وهذا محال في حق الله الذي لا يطلب الفتيا من أحد من خلقه.. إن القرآن «يخبر» عن أحوال وشخصيات، وينقل الأخبار - كما هي - (وهذا من دلالة صدقه المطلق)، ومن الخطأ الفاحش - عقديا ومنهجيا - نسبة أقوال بشر - حكاها القرآن - إلى الله تعالى، وإلا لجاز نسبة «قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم» إلى الله عز وجل وهذا مستحيل: اعتقادا وعقلا وذوقا.

ومن الأخطاء التي وقع فيها عدد من المفسرين - في هذا السياق - نسبة: «وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء» إلى يوسف عليه السلام. والحق الذي لا ريب فيه أن هذا قول امرأة عزيز مصر، بدليل السياق القرآني نفسه: «قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم».. ثم إن «القرينة الزمنية» دليل آخر بالغ القوة، ففي الوقت الذي قيلت فيه عبارة «وما أبرئ نفسي» لم يكن يوسف حاضرا في المجلس، بل كان لم يزل مسجونا.

ثانيا: لعل نقطة - ذكرت آنفا - تتطلب بسطا وتأصيلا؛ نقطة أن من مناهج القرآن «منهج الإخبار» بـ«قالوا» و«قال» و«قالت»، وبصيغ الإخبار كافة.. وقوام الإخبار القرآني هو: العلم والصدق والدقة والأمانة باطراد لا استثناء فيه قط.. ومن دلائل هذا الصدق المطلق: أن ينقل القرآن الأقوال - كما هي بالضبط - وإن كانت شنيعة جدا قادحة في القرآن نفسه، بل وإن كانت متطاولة على ذات الإله تقدس في علاه، متهمة للرسول بالجنون، ناطقة بالكفر البواح:

أ) «وقالت اليهود يد الله مغلولة».

ب) «وقالوا أساطير الأولين اكتتبها»، أي إن القرآن أساطير!

ج) «وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون»

د) «وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به»

وبمقتضى هذا المنهج الخبري نقرأ:

هـ) «قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب».

و) «قالت: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون». فهذه الآية لا بد أن تفهم في ضوء المنهج القرآني الخبري الآنف. فالآية إخبار بما قالته بلقيس.

ثالثا: في القرآن منهج متنزل على لسان العرب ولغتهم في «إيراد العام: المقصود به الخاص».. ومن ذلك:

أ) «الأعراب أشد كفرا ونفاقا». فهذا لفظ عام يقصد به «بعض» الأعراب، لا جميعهم، ببرهان أنه في ذات السياق في سورة التوبة نقرأ «ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم».

ب) «وقالت اليهود عزير ابن الله».. قال القرطبي: «هذا لفظ خرج على العموم ومعناه (الخصوص)، لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك».

ج) بموجب هذا المنهج اللغوي الأصولي في فهم القرآن: ينبغي أن تفهم آية: «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها» فالمقصود - ها هنا - «بعض» الملوك، لا كلهم.. والمرجح لهذا التفسير المعزز بالمثالين السابقين: البراهين العقلية والتاريخية التالية:

1) أن بلقيس نفسها كانت ملكة، وليس من العقل (وقد كانت امرأة ذكية حكيمة) أن تذم نفسها بهذه الطريقة التي تشملها هي أيضا، وأن تشهد على نفسها أمام أكابر قومها بأنها مفسدة لقريتها، ومذلة لأهلها الذين تحكمهم.

2) أن الواقع التاريخي شاهد بأن هناك «ملوكا صالحين»، منهم أنبياء. قال تعالى عن داوود «وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء». وقال عن سليمان «رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب».. وكان ذو القرنين ملكا صالحا غير نبي: أنقذ المستضعفين، وعمر الأرض بالسدود، وحكم بالعدل.

قال مجاهد: «ملك الأرض مؤمنان وكافران. فالمؤمنان سليمان وذو القرنين. والكافران بختنصر والنمرود».

وما قاله مجاهد يصح أن يكون أمثالا، وإلا فإن الملوك الصالحين في التاريخ البشري أكثر من ذلك، وكذلك الملوك الفاسدون.

لأجل ذلك كله نقول: إن الملكيات - كأنظمة حكم - ليست سواء، ولا تأخذ حكما واحدا، فمنها الصالح، ومنها الفاسد.. ونختم المقال بذات العبارة التي ختمنا بها المقال عن «الجمهوريات» وهي: أن المعيار الأدق والأعدل لتقويم أنظمة الحكم ليس هو الاسم ولا الشكل، وإنما «المحتوى» و«المضمون» و«الجوهر».