دستور «وريهم الخضرة»

TT

كان عمري 19 سنة عندما دعوت اثنين من الإنجليز ممن كانوا يدرسوننا اللغة الإنجليزية، وربما كانا أول رجلين من الإنجليز يدخلان قريتي. كان أحدهما - وكنا نناديه مستر سميث - ذا لحية بيضاء، أحمر الوجه، أما الثاني فكان شابا في العشرينات ملتحيا أيضا. ولما دخلت القرية قابلنا أحد رجالها وكان لا يعرف القراءة والكتابة، ولم يخرج من القرية من قبل، فسلم علي سلام الأقارب، ولما سلم على الإنجليزيين قبل يديهما، ولما سألته في ما بعد لماذا فعل ما فعل، قال «إنني نظرت إلى لحيتيهما الجميلتين ووجهيهما النيرين، وظننت أنهما من أهل العلم في الأزهر الشريف».

اصطحبني قريبنا الفلاح إلى البيت مع ضيفيّ، والتم حولهما أهل النجع، وبدأ حوار حضاري قررت فيه طواعية أن أقوم بدور المترجم من دون أن أتدخل في الأمر، رغم منيتي الملحة - المدفوعة بالرغبة في المنافسة الحضارية - في أن يكون لي رأي في الأمر. ومع ذلك قررت أن أكون محايدا.

«إنها حديقة معقولة» قال المدرس الإنجليزي لواحد من زراع قريتنا، الذي تفاخر أمامه بأنه يملك عشرين قيراطا من أفخم الأراضي الزراعية في القرية، يزرعها برسيما وفولا وعدسا وطماطم.. «حديقة إيه يا أستاذ.. دي مزرعة». بالطبع من لم ير المزارع، وعاش في ظل توزيع الأراضي حسب قانون الإصلاح الزراعي في عهد عبد الناصر، يظن أن عشرة قراريط أو عشرين قيراطا هي مزرعة بالفعل.

«خدهم وريهم الخضرة»، قال أحد رجال القرية، وبالفعل قريتنا يحدها شريط أخضر من الشرق وآخر من الغرب، لكنه شريط في كل الأحوال، ربما مساحة الخضرة حولنا لا تزيد على مائتي فدان، بيننا وبين القرى المجاورة، وهي بالنسبة للإنجليز والأميركيين أرض ربما يملكها شخص واحد ويسميها بالفعل مزرعة متوسطة. ذهبنا إلى الحقول، وعدنا للغداء. وتحدث الإنجليزيان عن مأساة مصر بصفتها أرضا كلها صحراء تقريبا ما عدا هذا الشريط الأخضر الملاصق للنيل. وانزعج أهل القرية من هذا الوصف، فكيف لهذا الإنجليزي أن يتحدث عن مصر وكأنها صحراء؟ كيف ونحن لدينا كل هذا النيل وكل هذه الخضرة؟

كنت حانقا على ضيفي يومها، لكنني تمسكت بدور المراقب أو المترجم الحضاري الذي قرر ألا يتدخل. رغم أنني كنت مثل أهل قريتي ضد هذا المنطق الذي يسمي العشرين قيراطا «حديقة»، والذي ينظر لمصر على أنها أرض صحراء، باستثناء هذا الشريط الأخضر المحيط بالنيل. كنت حزينا لتلك الأوصاف التي رأيت فيها إساءة حضارية.

وما هي إلا أعوام حتى أتيحت لي فرصة الحصول على بعثة إلى الولايات المتحدة الأميركية، إلى جامعة جورج تاون، ولما نزلت من الطائرة وأخذنا السائق إلى العاصمة، لفحتني خضرة المكان، خضرة عن اليمين وعن الشمال، وأشجار وارفة الظلال تلتقي فوق الطريق العام فتجعل منه ما يشبه النفق، لكنه نفق من خضرة الأشجار. لأول مرة في حياتي أعرف معنى الخضرة، فعندما تلفحك الخضرة بكل هذا الزهو وكل هذا الخضار المباغت، كما يلفحك ريح السموم في الصعيد، تعرف أن الخضرة شيء غير الذي كنا نتحدث عنه في الصعيد. كذلك تعرفت على أصدقاء من ولايات زراعية، وزرت مزارعهم، التي تسير فيها بالسيارة لساعات، بلا مبالغة، تتعرف على محاصيلها، وعلى طرقهم في الزراعة، فتعرف لحظتها أن القراريط العشرين التي كان يتفاخر بها صاحبنا في القرية، أو الفدان، أو الأفدنة الخمسة، هي بالفعل حديقة من منظور من يعرفون المزارع، وممن وهبهم الله أراضي شاسعة خضراء.

مثل معظم شباب المسلمين كنت غارقا في الدين، وكنت أتخيل أحيانا أن جماعات الغرب لن يدخلوا الجنة ولن يروا فيها حدائقها الغناء، لأنها موجودة لديهم في الدنيا، وأن الجنة هي لجماعتنا الذين لم يروا هذا الجمال الطبيعي. كان تفكيرا صبيانيا، ومع ذلك كانت فيه أشياء من رؤيتي لنفسي وللعالم، تركت بعضها في مصر، ولما عدت بعد أكثر من ربع قرن وجدتها هناك.

تذكرت كل هذا بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) وحديث المصريين عن دستورهم الجديد، وعن هويتهم الجديدة، وطبيعة البلد الذي نريد أن نعيش فيه. حديثنا اليوم عن الإعلان الدستوري وعن الدستور المصري وطريقة بنائه أو كتابته، وهذا يعتمد على ما إذا كنت ترى الدستور نصا أم معمارا جديدا. فالإعلان الدستوري الذي كتبه العسكر ومستشاروهم، هو بالضبط القراريط العشرون التي رآها صاحبنا مزرعة، مع أنها في نظر أي أمة متقدمة مجرد حديقة صغيرة. الإعلان الدستوري - كما كتب - كان أمرا متخلفا بامتياز، ومع ذلك يصر العسكر ومن معهم على أنه إنجاز.

أما حوارنا الوطني فهو حوار فقير، نريد أن نسوقه للعالم على أنه حوار راق ومتدن، هذا أيضا بالنسبة لي أشبه برؤية جماعتنا في القرية ممن لم يروا الخضرة ونضارتها الحقيقية، وقالوا لي «وريهم الخضرة يا مأمون»، بينما كان يتحدث الإنجليز عن كيف أن مصر مظلومة، وأنها صحراء جرداء في معظم أراضيها، باستثناء هذا الشريط المحيط بالنيل. بالطبع من لم ير الخضرة الحقيقية يظن أن مصر هي بيت الخضرة والخبرة، وأن العالم من حولها قفر، ومن لم ير دساتير العالم، أو من لم يتدارس الحوارات حول كتابتها في بلدان سبقتنا في هذا المضمار، يظن أن الحوار البدائي الدائر في مصر اليوم هو قمة النضارة، فنحن لسنا مجرد أم الدنيا، نحن أم الحضارة وأم الدساتير.

لكن السؤال الذي يشغلني دائما هو: لماذا يتواطأ من رأوا الخضرة الحقيقية ومن عرفوا الفرق بين الحديقة والمزرعة، هؤلاء العائدون من الغرب، ويمتدحون ما يجري رغم خيبته؟ سأحاول معكم الإجابة عن هذا السؤال في المقال القادم.