المصلحة العامة قبل إنقاذ ماء الوجه

TT

تناولنا لقضايا بريطانية داخلية هو - بديهيا - فرصة لإطلاع القراء على أساليب العمل السياسي في أعرق الديمقراطيات وأكثرها استقرارا، في وقت تحاول فيه أمم الشرق الأوسط اللحاق بقطار التاريخ الذي ألقيت خارجه - وسبقها بنصف قرن - بدفعة من بيان «الثورة» رقم 1 من استوديوهات إذاعات اقتحمتها دبابات الكولونيلات.

وبينما يفضل رؤساء ثلاث جمهوريات - لم ينتخبهم أحد - خراب البلاد وإراقة الدماء (بما فيها دماؤهم الشخصية كحال اليمن مثلا) على الاستجابة لمطالب الشعوب المشروعة، نقدم للقراء حكاية مبادرة الزعيم المنتخب دستوريا بإراقة ماء وجهه علنا نزولا على إرادة الرأي العام.

واجه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أحد أصعب أيام الأربعاء (يوم المساءلة الأسبوعية في مجلس العموم) وهجوم المعارضة وطلقات الصحافة على «تويتر» تسخر من رجل «رجع في كلامه». ورجوع السياسي في كلامه هو أثمن هدايا بابا نويل للسلطة الرابعة. فمن مانشيت الصفحة الأولى حتى الكاريكاتير، مرورا بالتحليلات السياسية والاسكتش البرلماني وأعمدة الرأي، تصبح الريشات والأقلام سياطا تلهب سخرياتها ظهر وأعصاب السياسي.

هذه الأيام لا تتاح للسياسي فرصة الاستعداد وتدليك زوجته لرقبته في المساء انتظارا لهجوم صحافة الصباح. أما القرص المسكن للصداع بالقول إن «جرائد اليوم هي ورق لف السمك والتشيبس (المقابل الإنجليزي لقراطيس الفلافل)»، فقد ضاع مفعوله في وسائل اتصال العصر. فإلى جانب البث التلفزيوني والإذاعي الحي، ونشرة أخبار الواحدة؛ نصف ساعة بعد انتهاء المساءلة البرلمانية، هناك الإنترنت (الذي تجاوز الكومبيوتر الثابت إلى أجهزة الموبايل) بـ«بلوغات» تسبق نشرة الأخبار، وبرصاصات الـ«تويتر» بـ140 حرفا تطلقها رشاشات مائة صحافي في منصة الصحافيين البرلمانية؛ لا يستمعون فقط لإجابات رئيس الحكومة ردا على هجوم المعارضة، بل يقرأون - بعيون الصقور - لغة الأجسام وتعبيرات الوجه ويعدون حبات العرق التي ينزفها جبينه.

سكان «فليت ستريت» لا ولاء لهم أو هدف سوى زيادة التوزيع، مما يجعل أي سياسي - حتى ولو تزوج والدة صاحب الصحيفة - هدفا مشروعا للأقلام.

رجع كاميرون في المسألتين الثانية والثالثة (بعد الاقتصاد طبعا) في التأثير على الصوت الانتخابي: الصحة، ومكافحة الجرائم. فقد وعد المحافظون بزعامته في انتخابات 2010 بتطوير نظام الخدمات القومية الصحية. والنظام الذي قدمته الحكومة العمالية الاشتراكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كان محل حسد العالم المتحضر. ادخل أي مستشفى للخدمة القومية في بريطانيا، وستعالج فورا ومجانا من دون طلب إثبات شخصيتك أو أصلك أو فصلك أو ديانتك (إلا إذا احتجت للعلاج أياما فيقدمون طعاما يلائم عقيدتك).

النظام أصابه المرض، وطالت قوائم الانتظار للعمليات الجراحية غير الطارئة بإدخال حكومة توني بلير العمالية طبقة بيروقراطية من رجال الأعمال بنفقات باهظة وأنظمة كومبيوتر أهدرت الميزانية، وارتفعت شكاوى المرضى من سوء إدارة غير المتخصصين (بدلا من كبيرة ممرضات المستشفى التي كانت ترتعد فرائص أعظم الأطباء لأوامرها الصارمة بالرعاية والنظافة).

حكومة كاميرون قدمت للبرلمان مشروع قانون إصلاحات يعيد توجيه ميزانية النظام الصحي (ما يساوي 180 مليار دولار سنويا - أربعة أضعاف ميزانية الدفاع)، لتكون بإشراف أطباء الأسرة (الممارسين العموميين) وخيار إحالتهم المرضى إلى مستشفيات خاصة.

نقابات التمريض وعمال الصحة وصحافة اليسار اتهموا كاميرون باتباع آيديولوجية المحافظين بتفضيل منافسة حرية السوق على خدمات تتيحها اشتراكية سيطرة الدولة التي يفضلها العمال. واتهموه بإتاحة الفرصة للقطط السمان لاقتناص القطاعات الرابحة من الخدمة الصحية. الأطباء انقسموا، ونصفهم يخشى استقطاع جزء من ميزانية العلاج لإنفاقها على المحاسبين وإدارة المشروع.

واضطر كاميرون لإلقاء خطاب الثلاثاء الذي رجع فيه عن كلامه ووعد بالإبقاء على النظام الأصلي مع تقليل البيروقراطية. في اليوم نفسه كانت القضية الثانية وصلت إلى أوج تفاعلها وبطلها وزير العدل. كينيث كلارك، ابن الـ71 خريفا وأكبر نواب البرلمان سنا، قدم مشروعا لتخفيض الإنفاق على مصلحة السجون (تتبع وزارة العدل لا الداخلية ومستقلة عن البوليس والأمن في الديمقراطيات البرلمانية). المتهم الذي يعترف بجريمته في التحقيق الأول ويساعد في توفير الأدلة، يكافئه القاضي بالعقاب بنصف مدة الحبس (كانت حكومة العمال وعدت بثلثي المدة في مشروع مماثل). الهدف توفير وقت وجهد ومال التحقيق ومعامل الطب الشرعي، واختبار ما إذا كان المتهم نادما على فعلته ويريد التهذيب والإصلاح، مع توفير ميزانية السجون (السجين الواحد يكلف خزانة الدولة ما يقارب 68 ألف دولار في السنة).

المعارضة والصحافة اتهمتا الحكومة بالاستهتار بالأمن والممتلكات الشخصية من أجل حفنة دولارات. انضمت المجموعات النسائية ذات التأثير الكبير في الصحافة للمنتقدين بعد زلة لسان الوزير بأن بعض متهمي الاغتصاب قد يشملهم المشروع. ولم ينتصف الأسبوع حتى تكونت جبهة مدنية قوية ضد وزير العدل قوامها المدافعون عن ضحايا الجرائم (أي مجموعة من ركاب أوتوبيس، أو راكبي البسكليت، أو أصحاب هواية يكونون جمعيات الدفاع عن المصالح في ديمقراطية دافعي الضرائب وقوتها من القاعدة إلى فوق وليس العكس).

في لقاءاتنا اليومية مع السكرتير الصحافي لرئيس الوزراء، دافع الأخير صباح الأربعاء عن رجوع سيده في كلامه. كرر أن مشروع وزير العدل كان ورقة خضراء (الورقة البيضاء اقتراحات عامة، والخضراء للبرلمان لمناقشة الفكرة قبل أن تصبح عريضة «bill» كمسودة قانون للتصويت). المشكلة لدى السكرتير أن وزير العدل قال في مقابلة إذاعية رسمية إن مشروعه «يعبر عن سياسة اتفق عليها مجلس الوزراء». وخروجا من المأزق في لقاء بعد الظهر، ألقى السكرتير في وجوهنا بأسباب تغير الموقف: وصلت إلى مكتب كاميرون مئات من رسائل الإيميل والمكالمات والخطابات.

ببساطة استوعب رئيس الوزراء آلاف الآراء بعد أن طلب استشارة الناس العاديين، من دافعي الضرائب ومرتادي المستشفيات، والمحتجين على اقتراحات وزير العدل، وضحايا الجرائم. وبعد موازنة الآراء، والتشاور مع المنتفعين والمتضررين والمختصين في الأمور، غير زعيم البلاد من سياسته 180 درجة.

اعتراف ضمني برجوع رئيس الحكومة في كلامه، لكن السكرتير قدم عذرا أجمل مما اعتبره الصحافيون ذنبا.

رئيس حكومة ائتلاف منحته الأمة الأغلبية البرلمانية، ومن حقه دستوريا تقديم تعديلات قبل الشعب بها في برنامجه الانتخابي، لكن استشارة المختصين، واحتجاجات الناس، أقنعت رئيس الحكومة بأن القطاعات المتأثرة مباشرة غيرت رأيها بعد نشر التفاصيل.

لم يتمسك الزعيم البريطاني بحقه الدستوري المشروع، بل وضع مصلحة الأمة قبل إنقاذ وجهه من الصفعات السياسية وسخرية الصحافيين برجوعه في كلامه بدلا من الاتجاه في سياسة لم يعد قادرا على إقناع الرأي العام بها.