«القاعدة».. إرث مشين وعبث باسم الدين

TT

تم القضاء على زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن مساء الأحد 1/5/2011 في منزله الذي اختفى فيه لمدة خمس سنوات بمدينة إسلام آباد في جمهورية باكستان الإسلامية.

وبذلك ودّع العالم الإسلامي أخيرا، وبعد عقد من الملاحقات الشاملة، والخطب المثيرة، والأفكار والمعتقدات الفاسدة، والعمليات العشوائية الإجرامية، عهدا مظلما من عهود خلط الأوراق واستخدام الدين الإسلامي أسوأ استخدام وتفريغ معاني الجهاد من مضامينها النبيلة، لأجل كسب الأنصار وجمع الأموال وإثارة الإعلام وتسويغ الجرائم المرتكبة.

يا ترى كم خسرت الأمة من مواقع حيوية، وكم خسرت من مشاريع بناءة، وكم أهدرت من موارد بشرية واقتصادية، بسبب تلك الأفكار المدمرة، وتلك المعتقدات الفاسدة، وتلك الأعمال المشينة!!؟؟

إنه لمن الصعب، بل من المستحيل إحصاء الخسائر المادية والمعنوية التي ألحقها زعيم «القاعدة» ببلاد نشأته وصباه، وببلاد أهله وذويه، وما ألحقه بأمته المتعطشة للإصلاح والنماء والاستقرار، نعم إنه لمن الصعب بل من المستحيل ذلك، مهما التمس له المعذّرون والمتعاطفون سرا أو جهرا من حجج ومعاذير وبواعث.

الأضرار التي ألحقها تنظيم القاعدة بالأمة أكثر من أن تحصى، وأخطر من أن تحدد، وأمرّ من أن توصف. يكفي أن الأمة الإسلامية التي يصل تعدادها - حسب منتدى «بيو» للأديان والحياة العامة في واشنطن العاصمة عام 2009 - إلى ربع العالم (بما يقارب مليار وستمائة مليون نسمة)، دفعت وما زالت تدفع الأثمان الباهضة في داخل البلاد الإسلامية وخارجها بسبب غطرسة وعنجهية مغامرين متهورين، زجوا بالأمة الإسلامية حكومات وشعوبا وأقليات في متاهات «التصادم المسلح» وغير المسلح مع كافة القوى والدول والمنظومات العسكرية والدينية والثقافية والسياسية والقانونية.

ليس ذلك فحسب، وإنما خلقت «القاعدة» ما يمكن أن نطلق عليه «حالة حرب» داخل الدول العربية والإسلامية مع مواطنيها، من أجل الحفاظ على الأمن الاستقرار والمكتسبات الوطنية والإقليمية والحضارية. نعم حصل ذلك كله وأكثر من دون حساب للنتائج والمآلات مع ظهور إعلامي غير مسبوق، والغريب أن أولئك القادة عاشوا متوارين عن الأنظار يعيشون في عوالمهم الخاصة، ويستمتعون أحيانا بحماية دول ومنظمات في أمن وهدوء ومتعة، بينما الأنصار والمجندون بالآلاف يقبعون في غياهب السجون!

لم يترك تنظيم القاعدة أحدا يعيش في سلام ووئام، ولم يرع قادتها المتوارون المتهورون حرمة لأحد كائنا من كان، فلقد تعرض المسلمون وغير المسلمين للأذى والقتل والترويع والتهديد والخسائر والغدر والخداع والمؤامرات على أيدي من نصبوا أنفسهم قادة للجهاد وحماة للدين ومحررين لفلسطين، ومحاربين للصهاينة والصليبيين!!

إن المتابع لجرائم قادة تنظيم القاعدة يلحظ أن ما خلفوه من دمار وخسائر أكبر وأخطر على الدول الإسلامية وعلى شعوبها، وعلى المؤسسات والتجمعات والجمعيات الإسلامية من غيره. لذا، ستبقى آثار الدمار والخسائر لعقود قادمة باعتبارها صفحات سوداء في تاريخ الأمة كما كانت عليه حركة «الحشاشين» وأمثالها. والمؤكد أن ما أحدثه تنظيم القاعدة من أضرار لا تستطيع أن تحدثه المنظمات والقوى المعادية للإسلام والمسلمين، مما يوضح كيف أن القوى المناصرة للصهيونية العالمية ولدولة إسرائيل أكثر الجهات الموظِّفة لأفكار وخطب وصنائع ذلك التنظيم الإرهابي. فلقد منحت تلك المنظمة القوى الدينية والسياسية المعادية والمتشككة أفضل الذرائع وأوضح اللغات - على طبق من ذهب - لتمرير مشاريعها ولكسب الدعم العسكري والمالي والسياسي.

تعرضت المؤسسات الحكومية والتطوعية للأذى، وتعرضت المساجد والكنائس والمعابد والفنادق والمطارات والطائرات والقطارات للضرر، كما أن حياة الإنسان التي حرمها الله، وقضى في محكم كتابه العزيز أن من قتل نفسا واحدة فكأنما قتل الناس جميعا، أصبحت محل العبث والصيد والاستهتار بلا وازع أو رادع أو ضمير حي، وما حدث ويحدث في باكستان وفي العراق وأفغانستان من قتل جماعي وعشوائي لخير دليل على ذلك. الظاهرة التي لم تكن معهودة في بلاد المسلمين وبأيدي المسلمين قبل عهد «القاعدة» المرير.

كانت المملكة العربية السعودية دولة محترمة من جميع الدول، وكانت المؤسسات التعليمية والدعوية والخيرية السعودية (حكومية أو تطوعية) محل ترحيب من كافة الدول بلا تردد أو استثناء، بما في ذلك دول المعسكر الشيوعي سابقا. تأثر ذلك كله بعد العمليات الإجرامية التي دشنتها «القاعدة» في العالم، وبعد الخطب التي بثتها والمنشورات التي وزعتها، مستخدمة وسائل الإعلام الحديثة بإتقان ودهاء وانتهازية، مع تبنٍ للعنف والقتل والتفجير في لغتها وأعمالها بلا حساب لشرع أو قانون أو قيم أو عقائد، مما تسبب في ملاحقة الأخيار من الدعاة والعلماء والأئمة الذين كانوا مشاعل نور وهداية ونفع للعرب والمسلمين في مختلف أصقاع العالم.

كان منسوبو الدعوة والمنخرطون في العمل الخيري الحكومي والتطوعي منتشرين بالآلاف في دول أوروبا وفي أميركا الشمالية ودول البحر الكاريبي وفي أدغال أفريقيا وجنوب شرقي آسيا وفي استراليا وغيرها من البقاع، وبعد تلك الأحداث الدامية في نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 وما تبعها من تفجيرات واختطافات واغتيالات وجرائم تعرض أولئك الدعاة من السعوديين ومن غير السعوديين للمساءلات والملاحقات والرصد في جميع دول العالم. شملت تلك الملاحقات والمساءلات الأمنية والقانونية المؤسسات التعليمية والإغاثية والدعوية الرسمية والتطوعية، فتم إغلاق غالبيتها، وإيقاف البعض، وإحالة البعض للمحاكم.

نجحت «القاعدة» من خلال عملياتها الإجرامية وخطبها المشحونة للتكفير والتهييج والإدانات والتهديدات في صناعة أجواء من الإرباك والإحباط داخل العالم الإسلامي وأجواء من الحذر والشكوك في كل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين في الدول الغربية وغيرها خارج العالم الإسلامي.

لقد تسممت الأجواء واستيقظ الأعداء، وقدمت «القاعدة» الذرائع المطلوبة للشك في كل ما له صلة بالدين الإسلامي حتى أصبح كل مسلم - بصرف النظر عن مدى تطبيقه للشعائر الدينية - مستهدفا بحق وبغير حق، وأصبحت «السعودية» على الأخص مستهدفة بلا ضوابط أو حدود، بل اعتبرتها بعض وسائل الإعلام الغربية، في استنتاج خاطئ «الدولة الحاضنة» للإرهاب والإرهابيين.

أحس العالم الإسلامي بالفاجعة الأليمة وبالخسارة الجسيمة، فلقد أصبح المسلمون شعوبا وحكومات، دولا وأقليات، أفرادا ومؤسسات في حرب مع الآخرين، من دون ذنب اقترفوه سوى تسلط المزاجية الحادة والنرجسية القاتلة لشخصية زعيم «القاعدة»، أصبح الجميع ضحية لشخصانية وطموحات ذلك الزعيم ومحل مراهنات للعدوانية والاستهتار بمبادئ الدين الحنيف وبمعتقدات الأمة من قبل القيادات التي هي في حقيقة أمرها خاسرة وفاشلة، وليس لديها شيء تخشى عليه وتحترمه، وبالتالي لم تعد تبالي بالنتائج لمغامراتها ومهاتراتها.

قبل ذلك «الزعيم الدمية» استخدامه معول هدم وذريعة لاستهداف أمته ولاستهداف بلاد صباه وأهله وذويه، وها قد رحل تاركا خلفه الإرث المشين والاستخدام المهين للدين الحنيف، والأوزار المتراكمة بعد أن زرع القنابل الموقوتة والأوجاع المستعصية في الأمة مشارق الأرض ومغاربها.

وقبل اختتام المقالة، من المفيد للعالم الإسلامي حكومات ومؤسسات تسجيل المواقف بوضوح بشأن تنظيم القاعدة وما يشابهها للتاريخ قبل فوات الأوان. تستعد العديد من الدول، ومن المؤسسات العلمية والإعلامية والدينية والسياسية في الغرب بشكل عام وفي أميركا بشكل خاص لتنظيم برامج ومسيرات ومناقشات ومؤتمرات، ولإعداد أفلام وثائقية بمناسبة مرور عشر سنوات على أحداث 11 سبتمبر الأليمة، وبالتالي لدى الدول والمؤسسات والهيئات والاتحادات والمساجد وسواها داخل العالم الإسلامي وخارجه الفرص المفتوحة للمشاركة الفعالة في رسم المسافة الشاسعة مع تنظيم القاعدة ومثيلاتها، وفي بلورة الرؤية السليمة النابعة من الشريعة الإسلامية الغراء تجاه منظمات العنف والإرهاب والتشدد.

إنه من المصلحة للعرب والمسلمين أن ينأوا بأنفسهم عن بؤر الصدامات والشحناء ومنظومات العنف والإقصاء، فالمستقبل للصدق والحق، ولحملة الفكر النيّر، ولمنظومات الحوار والتفاهم، وللتكتلات القائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.

وللتاريخ كانت السياسة السعودية أمنيا ودبلوماسيا موفقة وناجحة في تعاطيها مع أزمة التشدد والإرهاب ومواجهة زمر «القاعدة».. معتمدة بعد عون الله وقوته على الواقعية والمصداقية، وعلى قوتها الذاتية، آخذة في الاعتبار مكانتها الدينية والاقتصادية. لذا، تعاملت القيادة السعودية مع أحداث 11 سبتمبر الكارثية وما تلاها من أحداث مقيتة بجدية وحذر، مع التمسك المخلص بمبادئها، والمراعاة التامة لمكانتها، والاحترام الصادق لعقول الشعوب وأنظمة الدول، السياسة البارعة التي أخرجتها من عواصف الأزمة وتبعاتها بعد سنوات معدودة وبخسائر محدودة.

* كاتب سعودي، وعضو سابق في مجلس الشورى