الشعب يريد.. أنا أريد.. وأنت تريد..

TT

كيف يمكن معرفة حتمية نجاح الثورات إلا بعد رضا الناس عنها؟ وهذا هو الصراع الناعم الموجود على الساحات العربية بشتى أنواعها ما بين «إرادة» الشعب و«نظرة» النظام لما هو مفيد للصالح العام، وهو صراع جدلي وفلسفي، ولكنه حتمي ومصيري في نفس الوقت. كيف تصاغ إرادة الشعوب دستوريا وقانونيا، هذا هو التحدي الذي يواجه الثورات العربية بمختلف أشكالها، وهو يدخل الباحثين عن الإجابة عن هذا السؤال المهم مدخل أيهما يأتي أولا البيضة أم الدجاجة؟ وهو «تفقيس» إجباري للأفكار حتى يخرج ما هو مناسب، ولكن إلى أن «ترقد» الفكرة في أذهان الناس وتستقر سيستمر الشد والجذب الكبير بين المطالب بتغيير كامل لكل بنود الدستور وتغيير كل أشكال النظام السابق من شخوص وهيئات، والمطالب بالبناء على ما هو موجود والحفاظ على بقايا أشكال الدولة بدلا من هدمها بالكامل.

الشعب إلى حد كبير جدا وبأغلبية ساحقة توحد في رغبته في تغيير النظام أو إسقاطه، ولكنه تفرق بعد ذلك في تحديد الفقرة التالية: هل تأتي الانتخابات البرلمانية الحزبية أولا أو الرئاسية؟ هل يتم تغيير الدستور أو تعديله؟ هل تتم محاكمة كل عناصر النظام السابق وتجريمهم أو بعض رموزهم؟ هل يتم تحديد الحرية الإعلامية منعا للفتنة والتمزق الاجتماعي أو تشجيع استمرارها مفتوحة لتشجيع النقد والحرية؟ هل يتم تجريم الاعتصام والتظاهر بحجة أنه يعطل العمل ويشل البلاد أو إبقاء هذا الحق لأنه من أهم وسائل التعبير عن الرأي طالما لم يخرج عن القانون والسلمية؟

انفتح صندوق المحظورات، وخرجت كل الأسئلة التي كانت ممنوعة، ولكن الإرادة الشعبية التي توحدت تحولت إلى إرادات وجزئيات فردية وفئوية وحزبية من بعد ذلك، يحثها وطبعا يدعمها الجيش الحاكم والحامي للثورات، ولكنه يتحول في نظر البعض إما إلى ملجأ أخير ليكون اليد القوية والسطوة الأخيرة للحكم بالقوة «لإنقاذ» البلاد من شلال الفوضى القادم والجارف إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه بهذا الشكل المقلق، أو في نظر آخرين الجيش هو الذي «يسمح» بانتشار هذا النوع من الفوضى والتسيب لكي تكون لديه الحجة والشرعية والعذر لتنفيذ الأحكام بعد ذلك بالقوة دون أي نقاش ولا أي اعتراض، وبالتالي يعود للجيش الحاكم هيبته وشرعيته المستمدة من الشارع باعتباره حامي الثورة (إن لم يكن صانعها بنفسه أساسا!).

هذه الجدلية لا تزال في أولها ولم تسخن بالقدر الكافي، وهناك من سيتشنج، وهناك من سيبرد، وهناك من سيواصل، وهناك من سينسحب، ولكن التجربة صحية، وستكون فرصة حقيقية للمشاركة في صناعة مستقبل البلاد بأسلوب مباشر بدلا من الاعتماد على سلطان الآخرين في تحديد المصائر وتوجيه دفات المستقبل كما كان يحدث في السابق. الدساتير ليست مجرد سطور وأوراق تخط وتسن وتكتب من كهول في غرف مظلمة، ولكنها معايير للمواطنة، وعهد غليظ في حفظ العلاقة بين الحاكم والمحكوم بدلا من أن تترك «مفتوحة» بحسب شخصية الحاكم وأهوائه والحاشية المحيطة به فتكون العلاقة في هذه الحالة أشبه بمجموعة من الألغاز والطلاسم والأحاجي غير قابلة للحل ولا الفهم. وتتولد بالتالي فجوة مهولة بين الشعب والسلطة تفقد فيها الثقة والاحترام والأمان، وهو الذي يولد الشعور بعد ذلك بالغربة وعدم الإحساس بالجدارة وتأتي المطالبة الطبيعية لاحقا بضرورة تغيير وإسقاط النظام.

العالم يراقب مخاض إرادة الشعوب بعد التغيير، وإرادة الشعوب هي المعيار الحقيقي لمعرفة مدى النجاح الذي تحقق، لأن الفرح بنجاح الثورة دون التأكد من نجاح المرحلة الدقيقة اللاحقة هو أشبه بمن يفرح بنجاح العملية الجراحية ولكن يغفل أن المريض نفسه قد مات.

[email protected]