العراق.. الشفافية كخطوة أولى!

TT

منذ اندلاع موجة الاحتجاجات في المنطقة وانشغالنا جميعا بمتابعة تطوراتها، كان العراق الشعبي والرسمي في موقع المتابع المتفاعل، اعتاد العراقيون طوال السنوات الماضية أن يكونوا هم موضوع النقاش، الكل كانوا يدلون بدلوهم حول العراق الذي قدم مجالا جيدا للبعض للإبحار بأفكار مبسطة ومشحونة بتصورات مسبقة لا علاقة لها بتعقيدات الوضع العراقي ومخاضاته، ولا سيما أن البلد كان قد خرج من خانة النظم الحديدية ودخل مرحلة الهشاشة وعدم الاستقرار والاحتلال ومخاطر التقسيم. وفجأة بدأ الزلزال، تصدرت الأجندة دول وقضايا جديدة وأصاب العراق بعض الارتياح من ثقل الأقلام التي عندما لم تكن تجد ما تكتب فيه، تكتب حول العراق.

في المقابل كان العراق يراقب ما يحدث وهو في موقف مختلف، فالكثير من المشكلات التي أخرجت الشباب التونسي والمصري واليمني والسوري إلى الشارع موجودة في العراق: البطالة العالية، الفساد المستشري، اللاابالية السياسية، البحث عن الكرامة، ولكن العراق كان مختلفا من حيث إنه كان قد غادر الديكتاتورية وسقط في نقيضها: الحكومة الهشة. البلدان التي شهدت تغييرا سياسيا بدأت تدريجيا تدخل الزمن العراقي وإن بصور ودرجات مختلفة، وتكتشف بأنه ليس زمنا ورديا كما تصور العراقيون لحظة مغادرة الديكتاتورية، ولكنه ليس سيئا في المطلق كما ظلت المحطات التلفزيونية الرسمية تخبرهم ليلا ونهارا. إنه زمن الانكشاف أمام الذات ومواجهة الأسئلة الكبرى، ربما بعض البلدان أكثر حظا من حيث إن التغيير فيها جرى دون احتلال خارجي له شروطه التي لا علاقة لها بآمال وحاجات المواطن، وربما ستكون بعض البلدان أقل حظا حتى من العراق من حيث إن التغيير فيها ستزامنه أنهار الدماء والضحايا. فالتغيير ليس مجرد قرار، بل معركة لا بد لمن يدخلها أن يدرك حجم التضحية وأن يعي احتمال الفشل.

لذلك، فإن الاحتجاج في العراق كان لا بد أن يبحث عن مفاهيم ومنطلقات مختلفة للتعبير عن نفسه. وأرى أن الوضعين اللبناني والعراقي لهما خصوصية معينة، فمعظم الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة كانت تحت مظلة المطالبة بالديمقراطية، كانت إعلانا واضحا بأن الطرق والأساليب القديمة لم تعد صالحة وأنه ما عاد بالإمكان للشعوب أن تقبل الحكم الأبدي لرئيس واحد وعائلته، ولكن في العراق ولبنان لدينا نظامان سياسيان يعترفان بالديمقراطية كمبدأ للحكم، ويقران بالانتخابات كآلية لإفراز من يحكم، المشكلة هنا تبدو أكثر تعقيدا لأنها ليست نتاج وجود ديكتاتورية راسخة ومهيمنة ومستبدة بقدر ما هي وجود حكومات هشة وغير مستقرة وغير فعالة. هنالك فرق بين أن يخرج المواطن محتجا لأنه لم يعد يحتمل سلطة الحكومة وهيمنتها، وبين أن يخرج محتجا لأنه يريد حكومة، في الحالة الأولى من الطبيعي أن تنادي بسقوط النظام، أما في الحالة الثانية فإنك تريد إقامة النظام. بعبارة أخرى، قد لا يكون من الصعب أبدا إسقاط الحكومة العراقية، لكن ذلك ليس مخرجا من أي شيء، فالسؤال الذي ما زال العراقيون في موضوع الإجابة عنه منذ ثماني سنوات هو: كيف يمكن أن يبنوا نظاما ديمقراطيا مسؤولا وفعالا؟

قصة الحنين للديكتاتورية هي قصة مفتعلة تحاول بعض وسائل الإعلام الإقليمية والغربية الترويج لها بطريقة بائسة، لكن من الواضح أن ما يريده المواطن العراقي هو شيء مختلف عن الماضي والحاضر، المشكلة هو أن هذا الشيء لم يتبلور بعد على شكل مطلب واضح لأن طبيعة التحدي تتسم بالفرادة. لم تعد كلمة الديمقراطية وحدها كافية، وأستطيع أن أجزم بأنها لن تكون كافية في أي بلد عربي شهد تغيرا، فما بعد الديمقراطية يأتي السؤال: أي ديمقراطية؟ كيف تحول الكلمة الساحرة إلى نظام سياسي يضمن للمواطنين حريتهم وفي الوقت نفسه يزودهم بالإدارة الفاعلة والكفأة لتحسين وضعهم المعيشي؟ لذلك كان الاحتجاج في العراق ولبنان مثلا ضعيفا، لأن المنطلق الحقيقي للاحتجاج هو على الفوضى وغياب النظام، وليس على نظام قائم وراسخ ومتشكل. بالطبع أراد بعض السياسيين والمسيسين أن يركبوا الموجة والمراهنة على الاحتجاج لتحقيق غايات سياسية لا علاقة لها بمعاناة المواطن، وصرنا فجأة نسمع بحركات وقيادات تدعي جميعا أنها تقود العملية الاحتجاجية، والطريف أنها بأجندات متضاربة، فبعضها يريد مزيدا من الديمقراطية وبعضها يريد شكلا من الديكتاتورية، بعضها ضد الاحتلال وبعضها يريد تمديد وجود القوات الأميركية، بعضها يريد إطلاق سراح السجناء والمعتقلين وبعضها يريد إيقاع الحساب بهم سريعا. وما شوش الصورة أكثر أن قوى سياسية مشاركة في الحكومة وفي إخفاقاتها وضالعة في المحاصصة ونتائجها أرادت استثمار الوضع لتحسين وزنها داخل صفقة السلطة، فكان لفعلها تأثير منفر، أولا في تسخيف الاحتجاج، وثانيا في زيادة التشويش وغياب المطالب، إذا ما استثنينا الحالة الكردية التي كانت لها مطالبها الخاصة.

إن ما يحتاج إليه العراق هو حوار هادئ وبناء يتجاوز لغة الماضي ويهدف إلى بلورة مشروع إصلاحي حقيقي لا يعيد الديكتاتورية ولا يسقط في أتون الفوضى، وربما كانت مبادرة نقل اجتماعات مجلس الوزراء على الهواء مباشرة هي المنجز الوحيد الذي لا بد من استمراره، فتلك المبادرة أدخلت شيئا جديدا غير مألوف في الواقع العراقي، وهو إمكانية اطلاع المواطن على ما يجري من نقاش داخل المؤسسة التنفيذية الرئيسية للحكومة، ولا سيما أن مجلس النواب فشل حتى الآن في أن يبلور نفسه كمؤسسة حوار مجد وواقعي وليس منتدى للخطابات والشعارات والتصعيد السياسي. لاحظ الناس أنه في نقاشات مجلس الوزراء حيث كل شيء يدور حول قضايا تتعلق بالشأن اليومي للمواطن، وبعضها ذو طابع تقني، لم يعد مهما أن تعرف من هو السني أو الشيعي أو الكردي، فالنقاش يجري بلغة المؤسسة وساحته العراق. فقط مثل هذه المبادرات بإمكانها أن تعيد بعضا من الثقة المفقودة بين النخبة السياسية والمواطن، فإحدى الإشكاليات العريقة في الحياة السياسية العراقية هي شك المواطنين في طبيعة السلطة ودورها وعدم ثقتهم بها، وممارسات الطبقة السياسية الراهنة واجتماعاتها المغلقة وتعلقها بمنطق الصفقات كرس مثل هذا الإحساس. لذلك فإعادة بناء الثقة في حاجة إلى أكبر قدر من الشفافية، شفافية قد تجعل الحكومة وبعض مسؤوليها يشعرون بشيء من الخشية بسبب هذا الانكشاف المفاجئ أمام الناس، لكنها في المقابل ستجعلهم أكثر قوة إن كانوا يمتلكون الجدية الكافية والشجاعة لمصارحة الناس. الجلسة العلنية قد تخدم تدريجيا في وضع النقاش العراقي على سكته الصحيحة، فبدلا من أن يضيع في متاهة الكتل السياسية والصفقات السرية والشحن الطائفي أو الإثني، وبدلا من أن يشغل الإعلام والناس بقضايا لا أهمية لها بالنسبة إلى المواطن العادي، فإنه يقدم له بصراحة تلك القضايا المباشرة والمهمة التي يفترض في كل حكومة أن تواجهها وتتعاطى معها. الشفافية هي ربح في طريق بناء النظام وتثبيته، لأنها المنطلق لاستعادة ما فقدناه طويلا في العراق، أي الثقة.