في الثورات العربية الإسلام لا «الإخوان»

TT

طوابير مد البصر من المنتقبات في اعتصامات اليمن في ميدان التغيير، وصلاة الجمعة بالملايين في ميدان التحرير، وصيحات التكبير للثوار في فيافي وقفار ليبيا، وزغاريد زفة الشهداء في المدن السورية المنتفضة، إذن ليس غيرهم: الإخوان المسلمون أو السلفيون الذين يخرجون ويثورون ويتظاهرون ويعتصمون ويلتحون وينتقبون ويكبرون ويهللون ويستاكون ويصلون ويتصدقون. هذا التحليل البسيط ذو المخرجات الساذجة تخبط في تحليل واقع المجتمعات العربية المسلمة والمحافظة بالفطرة، هو ذات التحليل الساذج الذي صور طالبان بأنها وراء شيوع ظاهرة النقاب واللحى الطويلة في المجتمع الأفغاني، وكأن المجتمع الأفغاني قبل أن تستولي طالبان على السلطة في التسعينات كان مجتمعا ليبراليا منفلتا لا تُرى أغلب سيداته إلا بـ«التي شيرتات والشورتات»، ورجاله قبل طالبان كانوا أغلبية ساحقة من الذين يسحقون لحاهم، ثم حكم كرزاي ذو المذاق الليبرالي بالنكهة الأميركية، وتفاجأ السذج بأن النقاب واللحية الأفغانية لا يتغيران؛ سواء حكم الشيوعيون أو المستغربون أو الإسلاميون أو الطالبانيون، وأن هذه المظاهر الإسلامية المحافظة ثابتة في نسيج المجتمع الأفغاني المتدين ثبوت جبال الهندكوش الرواسي.

صلاة الجمعة في ميداني التحرير والتغيير بثت الرعب في كثير من العلمانيين السذج، فقالوا هم «الإخوان»، وكأن النداء الرباني «إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله» نزل على «الإخوان» أو الإسلاميين فقط.

يجب أن لا تنجر الحكومات المولودة من رحم الثورات العربية إلى هذا التحليل المريض لواقع المجتمعات العربية، وأن تدرك أن هذه المجتمعات متدينة محافظة بالفطرة، وأن شعبية «الإخوان» أو الإسلاميين بصورة عامة ليست لذواتهم، وإنما لأن الشعوب العربية تنظر إليهم على أنهم مساهمون في المحافظة على سمت المجتمع المتدين، مقاومون لسياسات التغريب والانفلاتات العقدية والفكرية والأخلاقية.

أحد الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها بعض الحكومات التي أسقطتها الثورة، أو التي في طريقها للسقوط، أنها صادمت بمنهجها التغريبي أوجه التدين في مجتمعاتها المحافظة؛ فأمسى الرئيس ووزراؤه وأسرته وحاشيته وبرامجه وخططه لا يمثلون المجتمع المحافظ الذي يحكمونه، فصارت الفجوة ثم الجفوة، غذّاها الاستبداد السياسي والقمع الأمني، فكونت البيئة الخصبة لثورات داهمتهم كـ«تسونامي» هائج.

كانت الأنظمة العربية التي سقطت تتعامل بدرجة من الحساسية المفرطة مع تشجيع مظاهر المحافظة في المجتمع، خوفا من أن يكون في ذلك مناصرة للإخوان المسلمين وبقية التوجهات الإسلامية، والنتيجة صارت عكسية، أي أن خصومهم من «الإخوان» وبقية التوجهات الإسلامية صاروا يكسبون مزيدا من الأرض على ميدان المعركة السياسية والفكرية والآيديولوجية، كلما أوغلت الأنظمة في محاربة التدين ومظاهر الفضيلة، وهذا بالضبط ما جرى مع متطرفي العلمانية في كل من تركيا وتونس، وبدرجة أقل في بقية الأنظمة المخلوعة أو الآيلة للسقوط هذه الأيام.

كانت الأنظمة المخلوعة وغير المخلوعة تقول، وهي محقة، إن الإسلام ليس حكرا على «الإخوان» ولا غيرهم من الإسلاميين، ولكنها بسماحها للنيل من عدد من الثوابت الإسلامية، وتشجيعها للإعلام الهابط ومظاهر العري، بل والسماح في بعض الدول بالانفلات الأخلاقي والتستر عليه بطريقة شبه مكشوفة، جعلت الشعوب تتعلق بقشة «الإخوان» وغير «الإخوان»، فاستفردت تلك التوجهات بالساحة، وصارت لاعبها المؤثر والأكبر سياسيا وآيديولوجيا، ليس ذكاء في «الإخوان» وبقية الإسلاميين، بل غباء في الأنظمة المخلوعة التي لم تحسن قراءة خارطة شعوبها المحافظة.

[email protected]