ضوء أحمر!

TT

فجأة، ومن دون مقدمات، وجدت نفسي الأسبوع الماضي، طرفا في حكاية عامة، لا يغيب عنها أكثر من معنى..

الحكاية بدأت عندما قيل في مصر، قبل شهرين تقريبا، إن الرئيس السابق حسني مبارك، سوف يخضع للتحقيق، في أمور محددة، وإنه بعد التحقيق، سوف يذهب إلى المحاكمة، لنجد أنفسنا في القاهرة، لأول مرة في تاريخنا الحديث، أمام رئيس سوف تجري محاكمته، وهي مسألة ليست مسبوقة عندنا على كل حال، لأن الذي سوف تجري محاكمته كان رئيسا للبلاد، على مدى 30 سنة، ولم يكن مواطنا عاديا، ولا حتى كان مجرد مسؤول كبير.. فما أكثر المسؤولين الكبار الذين خضعوا في تاريخنا للتحقيق والمحاكمة، ولم يكن بينهم رئيس جمهورية، على الإطلاق، ولا حتى رئيس جمهورية سابق، فلا يزال الرئيس في وعينا العام شيئا، بينما الدولة كلها، بمواطنيها ومسؤوليها، تمثل شيئا آخر.

المهم.. كان من الطبيعي أن يلتمس المتهم، الذي هو رئيس سابق، محاميا، يدافع عنه، فهذه مسألة بديهية لا يجوز أن تكون محل إنكار، أو خلاف، حتى ولو كان المتهم معترفا بجريمته، بل إن المحكمة، كما نعرف جميعا، تنتدب محاميا من تلقاء نفسها للدفاع عن المتهم، إذا لم يحضر معه محام يدافع عنه!.. وأكثر من هذا، فإن محكمة النقض تبادر بإلغاء أي محاكمة، إذا رأت أن المحامي لم ينهض بواجبه المفترض في الدفاع عن المتهم!

في أجواء من النوع الذي نعيشه، منذ ثورة 25 يناير، التي أطاحت بنظام الرئيس مبارك، وفي ظل بديهيات من هذه النوعية، فوجئ كثيرون بأن محامين كبارا اعتذروا عن عدم قبول مهمة الدفاع عن مبارك أمام المحاكم في اللحظة الأخيرة لأسباب تخصهم، ولأنهم رأوا أن الرأي العام في المجتمع لا يتقبل منهم القيام بهذه المهمة، في ظل ظروف قائمة، ولم يسأل أحد منهم نفسه، والحال هكذا، عما إذا كان الرأي العام، في هذه النقطة، على حق، أم لا.. لذلك بدا الأمر غريبا للغاية، ومدهشا، وربما صادما، عندما قيل إن الرئيس السابق يبحث عن محامين من خارج البلد، للدفاع عنه، أمام المحكمة، وكادت هذه الخطوة من جانبه، تكتمل إلى نهايتها، لولا أن الأستاذ فريد الديب المحامي، قد قرر أن يقبل المهمة، وحده، وأن يتولى الدفاع عن متهم، هو يعتقد - أي الديب - أن عنده ردا مقنعا على كل تهمة موجهة إليه!

وقد كان الأمر مثيرا، بالنسبة لي، لذلك، سعيت من جانبي إلى لقاء مع المحامي الديب، لعله يقول للناس لماذا قرر أن يقبل مهمة رفضها غيره من المحامين الكبار.. ولماذا يقبل، وهو يعلم يقينا أن قبوله إنما هو سباحة ضد التيار!

وبالفعل، كان هناك لقاء بيني وبينه، على مدى ساعة، من خلال برنامج «ضوء أحمر» الذي أقدمه أسبوعيا، على فضائية «دريم» المصرية!

وما إن أذاعت القناة أخبارا عن قرب بث البرنامج، في موعده الطبيعي، وهو السابعة والنصف من مساء كل اثنين، حتى كانت لجنة الحريات في نقابة المحامين، أعرق النقابات المصرية، قد تقدمت ببلاغ عاجل إلى النائب العام لوقف إذاعة الحلقة.. وهو ما حدث!

وجاء البلاغ مثيرا للدهشة البالغة بين قطاعات من الرأي العام، كانت تنتظر البرنامج، لترى ما الذي يمكن أن يقوله المحامي المصري الوحيد الذي لم يجد حرجا في قبول مهمة كهذه، وهو لم يقبلها فقط، وإنما قال صراحة إنه فخور بها، لا لشيء إلا لأن الرأي العام، في أي بلد، وفي كل الحالات، وليس في مصر وحدها، ولا في حالة «مبارك» وحده، يظل في حاجة إلى من يرشده، ويشرح له، وينير الطريق أمامه، بالحقائق المتاحة، لا إلى من أن يسايره، أو يغازله، أو ينافقه! وكانت الدهشة، في كل الأحوال، راجعة إلى أكثر من سبب..

الأول، أن اللجنة حين تقدمت بالبلاغ إلى النائب العام، قالت ما معناه أنها تخشى أن تؤثر الحلقة، بما سوف يقال فيها، على القاضي الذي سوف يتصدى للقضية، وهو كلام مردود عليه، بأن القاضي في أي قضية لا يحكم أبدا بما يسمع في الشارع، ولا بما يرى في التلفزيون، وإنما يحكم بما أمامه، من أوراق، وبما في هذه الأوراق من أدلة، وقرائن، وحجج، وبراهين، ومع ذلك، فإن المحامي الديب، رجل صاحب مكانة في مهنته، وليس مبتدئا، ويستحيل عليه، إذا تكلم في وسيلة إعلام، أن يفعل ذلك بقصد التأثير على القاضي، في قضية يترافع فيها هو، عن موكله، أمام المحاكم.. يستحيل.. وقد كان هذا واضحا أمام كل الذين شاهدوا حلقة البرنامج، بعد أن فك النائب العام الحظر عنها، وجرت إذاعتها، بعد موعدها الطبيعي.. بيومين!

وكان الأمر المحير حقا، أن تسعى لجنة «الحريات» في نقابة لها هذه العراقة، إلى مصادرة «حريات» الآخرين، في أن يتكلموا ويقولوا رأيهم في حرية كاملة، دون تقييد، ما داموا عارفين بحدود ما يقال، وما لا يقال!

وقد تمنيت لو أن أعضاء اللجنة انتبهوا إلى أن إبراهيم الهلباوي، أول نقيب للمحامين في مصر، عام 1912، لم يجد أي حرج في أن يدافع قبل ذلك بسنوات، عن الضباط الإنجليز المتهمين في حادث دنشواي الشهير، الذي كان قد وقع في قرية دنشواي، إحدى قرى محافظة المنوفية، عندما كان بعض الضباط الإنجليز قد ذهبوا لصيد الحمام في القرية، فقتلوا عددا من أبنائها، وأصابوا آخرين، وانعقدت محاكمة لهم، وكان الهلباوي هو محاميهم، ليس طبعا لأنه كان يريد أن يقف مع الضابط الإنجليزي المتهم، ضد ابن بلده المجني عليه، وإنما لأنه، كما قال في ما بعد، وهو يدافع عن نفسه، كان يتصرف بوصفه محاميا يدافع عن المتهم كمتهم، من دون تصنيف لهذا المتهم، على أي أساس.. فهو في النهاية متهم، بصرف النظر عن جنسيته، أو لونه، أو وضعه الاجتماعي، أو الوظيفي، ولا وظيفة للمحامي في حالة كهذه، وفى غيرها أيضا، إلا أن يبين لهيئة المحكمة الأسباب التي دفعت المتهم إلى ارتكاب الجريمة التي قد يكون ارتكابه لها خارج إرادته!

طبعا القياس مختلف، بين حالة المحامي الهلباوي، وحالة المحامي الديب، لكني فقط أريد أن أوضح الفكرة بالمقارنة بين حالتين، قد يكون بينهما تشابه في بعض الوجوه.

وربما يكون مفيدا هنا أن نذكر الحديث الشهير للرسول عليه الصلاة والسلام، الذي قال فيه ما معناه، إنه قد يختصم إليه اثنان من أصحابه، وقد يكون أحدهما «ألحن» من الآخر، بمعنى أن يكون أقدر على شرح حجته من صاحبه!.. ويواصل الرسول الكريم، رواية حديثه، فيقول ما معناه أيضا، إنه في النهاية بشر، وإنه سوف يحكم بما يسمع، ويجوز أن يحكم للشخص الذي هو «ألحن» من الآخر، ثم لا يكون هذا الشخص هو صاحب الحق، وإنما يكون هو الظالم، لكنه في الوقت نفسه، يكون الأقدر على الكلام المقنع المنمق!.. ومرة ثالثة، يعود الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول إنه سوف يحكم بما يسمع، في لحظة الاختصام إليه، وإنه لو قضى لأحد منهما بشيء من حق أخيه، فليتبوأ هذا الأحد مقعده من النار!

فما معنى هذا كله؟!.. معناه أن القاضي، بالقياس، يمكن أن يحكم ضد بريء، لا لشيء إلا لأن هذا البريء لم يستطع إقناع القاضي بأدلة براءته، ليس لأنها، كأدلة، غير موجودة، وإنما لأن القدرة على التعبير، والشرح، والإقناع، لا تواتيه كمتهم، وهي بطبيعتها قدرات لا يملكها أي شخص، لكن يتفاوت فيها الأشخاص!

ما أحوج لجنة الحريات، وما أحوجنا جميعا إلى أن نتدبر المعاني البعيدة، التي أرادها لنا الرسول الكريم، وهو يصف موقفه، إذا اختصم إليه متنازعان، وهذه المعاني ليس أولها حق كل إنسان في أن يعبر عن نفسه، في حرية، أو يستدعي مَنْ يقوم بهذه المهمة، بديلا عنه، إذا كان متهما أمام المحكمة، ولا آخر المعاني أن الحكم على متهم، ليس معناه أنه بالضرورة مدان!