قتلوني مرة.. وانتحلوا وجهي مرارا

TT

في يوم من الأيام؛ عندما كان كونفوشيوس يمر بجبل تاي، سمع امرأة تنتحب بمرارة أمام قبر، فأرسل أحد تلاميذه ليسألها عن السبب. وقال: «يبدو في صوت نحيبك حزن شديد»، أجابت المرأة قائلة: «نعم، لقد قتل نمر حماي والتهمه، ثم لاقى زوجي المصير نفسه. أما الآن فأنا أبكي على ابني الذي التهمه نمر هو الآخر». عندما سمع كونفوشيوس هذا الكلام، سألها: «لماذا لا تتركين هذا المكان؟»، فأجابته: «لأنه ليس به حاكم ظالم». التفت كونفوشيوس حينها إلى تلاميذه، وقال لهم: «تذكروا دوما يا شباب أن الظلم أشد وطأة على النفس من النمر».

نرى هذه الأيام الأبرياء يُقتلون على أيدي قوات الأمن في ليبيا واليمن وسوريا؛ فليست النمور المفترسة هي التي تقتل وتلتهم المتظاهرين، بل رجال قساة شرسون، وهم في هذه الحالة أسوأ من النمور، بمعنى أن هناك أنظمة مستبدة من جانب، ونمورا مفترسة من جانب آخر، والاثنان يدعمان بعضهما بعضا. يمكن القول إذن إن الاثنين وجهان لعملة واحدة. دعوني أورد لكم مثالين لا يمكن نسيانهما. أحد هذين المثالين حمزة الكاتب في سوريا، والثاني هالة صحابي في إيران. فقد الاثنان حياتهما، لكن ما زالت ذكرى مقتلهما خالدة. من جانب، هناك تقرير رسمي أو رواية رسمية للإعلام الحكومي، وعلى الجانب الآخر، رواية شهود عيان شاهدوا مقتل هالة في إيران وحمزة في سوريا.

يبدو لي عدم وجود اختلاف بين دماء الشهيدين اللذين أصبحا رمزا لمقاومة الشعبين الإيراني والسوري. تعد أسرة صحابي من أشهر الأسر في العلم والسياسة في إيران؛ فقد شارك والدها في أول برلمان بعد الثورة الإسلامية في إيران. وبفضل انتخابي نائبا في البرلمان، تعرفت عليه، وكانت تجربة ثرية وفرصة ذهبية. كان يد الله صحابي (1905 - 2002) عالما وكاتبا وإصلاحيا وسياسيا إيرانيا بارزا، وكان قريبا من محمد مصدق ومهدي بازركان، وكان ناشطا في حملة لتأميم النفط في الخمسينات.

وكان صحابي أحد مؤسسي حركة الحرية الإيرانية، وكان هو وبازركان مثالين مشرقين في الأخلاق والدين والسياسة والعلم. يمكننا معرفة كيف يمكن أن تجتمع هذه الصفات الأربع في شخص واحد، إذا نظرنا في التناغم بين هذه الصفات في حياتهما. لذلك كان صحابي وبازركان بطلين وثروة قومية في نظر الكثير من الإيرانيين. منذ اثني عشر عاما، أرسل دكتور صحابي خطابا مفتوحا إلى آية الله خامنئي، لكن للأسف لم يتلق أي رد منه. أعتقد أن هذا الخطاب يعد دليلا هاما في تاريخ إيران الحديث.

كان عزة الله صحابي (9 مايو / أيار 1930 - 31 مايو 2011) ابن يد الله صحابي، وكان طالبا وناشطا في مجال الإغاثة الإنسانية والديمقراطية والسياسة، وكان عضوا في مجلس الثورة ونائبا في أول برلمان بعد الثورة الإسلامية (1981 - 1986)، كذلك كان رجل سياسة واقتصاد ومحللا اجتماعيا بارزا. وقضى في السجن عدة سنوات قبل وبعد الثورة الإيرانية، وكان قائد الائتلاف القومي الديني منذ عام 2003 حتى وفاته عام 2011.

وقضى عزة الله صحابي خمسة عشر عاما في السجن؛ ثلاث مرات قبل الثورة وثلاث مرات بعدها. أعتقد أن حياة صحابي هي خير دليل على إخفاق الثورة الإيرانية. وتوضح أحداث حياته كيف تحول الحلم الرائع إلى كابوس فظيع. أتذكر رأي آرثر كوستلر في الشيوعية، الذي جاء في أول فقرة في كتابه «الكتابة غير المرئية»؛ حيث كتب: «لقد ذهبت إلى الشيوعية كما يذهب المرء إلى نبع ماء، وابتعدت عنها كمن يبتعد عن نهر مسمم مليء بحطام المدن الغارقة وجثث الغرقى».

من كان يخطر بباله أن ابنة صحابي سوف تُقتل أثناء تشييع جنازة والدها؟ لقد كانت هالة صحابي عضوا في منظمة «أمهات من أجل السلام»، وإحدى الناشطات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة. وتم القبض عليها في الخامس من أغسطس (آب) 2009 ضمن من قبض عليهم أمام البرلمان، خلال الاضطرابات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها أحمدي نجاد بفترة رئاسية أخرى.

وتم الحكم عليها بسنتين بتهمة «الترويج لمناهضة النظام وتكدير الأمن العام»، لكن تم الإفراج عنها مؤقتا لحضور جنازة والدها في مايو 2011. وأثناء تشييع الجنازة ضربها أفراد من قوات الأمن بعنف وقسوة، وتوفيت متأثرة بجراحها بعد بضع ساعات، على حد قول شهود عيان. لقد كان جسدها يطفو في نهر الثورة. لكن تقول المصادر الرسمية إن هالة توفيت نتيجة الإصابة بأزمة قلبية. إن هذه الأحداث تجعلنا نشعر بأننا نعيش عهد ستالين، وأن الاستخبارات السوفياتية «كي جي بي» توجه وسائل الإعلام الإيرانية، وتحضرني الآن قصيدة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم التي يقول فيها:

قتلوني مرة

وانتحلوا وجهي مرارا

الكذب وتزييف الحقائق هما جوهر الاستبداد. لم تسمح قوات الأمن الإيرانية لمشيعي الجنازة بالذهاب إلى المسجد وإقامة عزاء لائق، بينما سمح يزيد بن معاوية لأسرة الإمام الحسين بالتجمع في مسجد دمشق لإقامة العزاء؛ لذا يعد خطاب علي بن الحسين السجاد، رابع أئمة الشيعة، من الخطابات الشهيرة؛ لأنه هاجم فيه يزيد وبني أمية في مسجد دمشق، وقد حظي الإمام الرابع بخير فرصة في اليوم الذي اعتلى فيه خطيب الدولة المنبر وشهّر بالإمام علي وأبنائه، وامتدح بفصاحة معاوية وأبناءه؛ فقال الإمام ليزيد: «هل تسمح لي باعتلاء هذه القطعة من الخشب لقول بعض الأمور التي ربما ترضي الله وينال بها المصلون ثوابا؟». ووافق يزيد، واستهل الإمام السجاد خطابه المناهض لبني أمية؛ ماذا حدث في إيران حتى تمنع الحكومة هالة من إقامة عزاء لائق لوالدها في المسجد؟ إن هذا حق طبيعي وحق يكفله لها الإسلام، لكن على العكس من ذلك، أمروا أسرة صحابي بدفن جثمان الابنة من أول ليلة. أعني أن الحكومة لم تسمح للأسرة بترتيب عزاء تقليدي.

المثال الآخر الذي أرغب في ذكره عن رجل يقول إنه والد حمزة الخطيب، الذي امتدح الأسد على شاشات التلفزيون، قائلا: «لقد غمرنا بطيبته؛ ماذا عساني أقول أكثر من ذلك؟ إنه ألطف إنسان قابلناه. لقد وعدنا بتنفيذ طلباتنا وطلبات الناس، وكذلك وعدنا بإجراء الإصلاحات اللازمة قريبا. لقد كانت مقابلة رائعة وسررنا بالحديث معه. لقد حقق الكثير من الإنجازات في الماضي وقدم لنا الكثير، وقال إنه عاقد العزم على تقديم المزيد والمزيد».

يعلم الجميع حاليا كيف تم تعذيب وقتل حمزة؛ فصوره باتت منتشرة ومتاحة في كل مكان. لقد بات حمزة رمزا للمقاومة في مدينة درعا. والهوة بين الإعلام الرسمي والحقيقة الواضحة تبدو شاسعة، وسيحكم التاريخ والأمم على ما حدث، كما هو الحال دائما.