الضابط والسائق والصحيفة

TT

ذهبت إلى لقاء مع الدكتور يحيى الجمل بحماس مضاعف. أولا: لقيمة الرجل الفكرية والأخلاقية، وثانيا: لأننا نعوض هذه الأيام عن الذهاب إلى مصر باللقاء مع المصريين، سياسيين وزملاء. وكانت لدي بعض الأسئلة التي يطرحها جميع الناس: علاقات مصر العربية، حظوظ المرشحين للرئاسة، موقف المجلس العسكري، مدى ضعف الأحزاب السياسية في وجه القدرة التنظيمية عند «الإخوان»، وغير ذلك. وسألت، خصوصا، عن الوضع الأمني، فقال نائب رئيس الوزراء: إنه أفضل كثيرا من قبل. ثم استدرك: لكننا أحسن حالا من نيويورك، في نهاية المطاف.

واعترضت معتذرا. قلت: هذا لا يجوز من رجل قانون ومعرفة وتواضع مثلك. هذا كلام قاله رجل متعجرف كان يخاطب الناس كالطاووس عندما كان وزيرا للإعلام ثم السياحة. أو العكس. والنتيجة واحدة، أولا وثانيا. يومها قال، تعليقا على مذبحة في الأقصر بقرت خلالها عجوز ألمانية ثم اغتصبها ثلاثة من كلية الطب، بعد بقر بطنها: إن عدد حوادث القتل في نيويورك ولوس أنجليس أكثر بكثير.

يحق للوزير ألا يعرف الفرق بين الجريمة الفردية والجريمة الجماعية. معدل الجريمة في نيويورك لم يوقف سيل الزوار والسياح والمستثمرين. ولا في لوس أنجليس. نحن نتحدث هنا عن حالة الهستيريا الوحشية الجماعية. عن المئات الذين حاولوا قتل ضابط في ميدان التحرير لأنه منعهم من تعرية مذيعة تلفزيون. وفي المقابل رأت مجموعة من الناس («الأخبار») سائق تاكسي يقرّع شرطيا، فانهالوا على السائق ضربا حتى الموت في الشارع. ثم ركلوه. ثم توجهوا إلى منازلهم لأحلام هانئة.

يا عزيزي الدكتور، إن رجلا جليلا مثلك يجب أن يخاف على بلده من عوارض الأمراض الجماهيرية. عندما تشعر الوحوش أن السياج قد سقط تندفع جماعات. يا سيدي، قبل أيام نشرت إحدى أفضل الصحف عندي «إخبارا» لرجل يقول فيه إن لديه وثائق بأن طائرة الركاب المصرية التي سقطت في أميركا عام 1996 وعليها 23 ضابطا، الطائرة هذه، أخبرته امرأة يهودية أميركية بأن الذي أسقطها هو حسني مبارك وإسرائيل. ألم يكن أسهل وأوفر وأستر على حسني مبارك أن يحيل 23 ضابطا على المعاش؟ حيا الله عمر البشير أيام الشراكة مع الترابي، كان يحيلهم 66 خلف 66. لزوم المحافظة على عبقرية الأرقام.

يؤسف أن الصحيفة التي قبلت نشر مثل هذه الفظاعات لم تكن تصدر في مرحلة سقوط الطائرة المنكوبة، والعثور على صندوقها الأسود، والتحقيقات التي أجرتها شركة «بوينغ»، وصوت قائد الطائرة وهو يردد 14 مرة «الله أكبر» قبل أن يوجهها إلى البحر.

نريد أن نطمئن إلى أن الشعور بالتحرر من نظام مبارك لا يعني ضرب ضابط حتى الغيبوبة ولا ضرب سائق حتى الموت ولا ضرب مصداقية الصحافة المحترمة.