أميركا تواجه تحديات تعويض «عقد اقتصادي مفقود»

TT

رغم الجهود الكبرى التي بذلت خلال عامي 2008 و2009 التي حالت دون حدوث انهيار مالي وكساد، تقف الولايات المتحدة في منتصف الطريق نحو مواجهة عقد اقتصادي مفقود. منذ الربع الأول من عام 2006 حتى الربع الأخير من عام 2011، بلغ متوسط معدل نمو الاقتصاد الأميركي أقل من 1 في المائة سنويا، وهو متوسط مشابه لما حققته اليابان خلال الفترة التي انفجرت خلالها فقاعتها الاقتصادية. خلال ذلك الوقت، تراجع نصيب القوة العاملة بين السكان من 63.1 في المائة إلى 58.4 في المائة، الأمر الذي قلص أعداد من يملكون وظائف بأكثر من 10 ملايين. ولا تزال نسبة القوة العاملة تقريبا عند نفس مستواها المتدني، وتوحي التقارير الصادرة مؤخرا في هذا الشأن بأن نمو الوظائف يتباطأ.

ووراء نقص الوظائف والدخول، تبقى الحقيقة أن الاقتصاد الذي ينتج بمعدل أقل من إمكاناته لفترة طويلة يضحي بذلك بمستقبله. والملاحظ أن أعدادا ضخمة من خريجي الجامعات حديثا بدأوا في الانتقال للسكن مع والديهم هذا الشهر بسبب افتقارهم إلى وظائف أو دخل كاف للمعيشة. وتعمد كثير من المدارس التي تفتقد المال إلى تقليص الدورات التدريبية المتقدمة في الرياضيات والعلوم، وتفتح بعضها أبوابها أربعة أيام فقط أسبوعيا. ويعتبر تراجع الدخول والضرائب من بين أهم الأسباب وراء العجز غير المقبول في الميزانية في الحاضر والمستقبل.

تقليديا، نجح الاقتصاد الأميركي في استعادة عافيته بقوة من فترة الركود التي مر بها مع تجدد الطلب سريعا، وفي غضون عامين من موجتي الركود العميقتين الوحيدتين خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية - بين عامي 1974 و1975 وعامي 1980 و1982 - نما الاقتصاد بمعدل 6 في المائة أو أكثر، وهي معدلات تبدو مستحيلة اليوم؛ لماذا؟ لقد صاغت ديناميكيات التضخم الدورة التجارية الأميركية التقليدية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية. واستمرت خطوات الاقتصاد نحو استعادة عافيته، بل وأحيانا تسارعت حتى قتلها مصرف الاحتياطي الفيدرالي بهدف السيطرة على التضخم. وبعد تباطؤ وتيرة التضخم، بدا تحرك الاقتصاد نحو استعادة عافيته سريعا بدافع من إجراءات خفض راديكالية في معدلات الفائدة وتراكم استثمارات مؤجلة أمرا حتميا. إلا أن موقفنا الراهن مختلف للغاية؛ فمع اتباع سياسات نقدية أكثر حذرا، لم تعد عمليات التوسع تتعرض للإعاقة جراء تفاقم التضخم، ويضغط مصرف الاحتياطي الفيدرالي بقوة على المكابح.

الملاحظ أن موجات التوسع الثلاث الكبرى، منذ فرض بول فولكر السيطرة على التضخم، انتهت منذ أمد بعيد. وتنتهي هذه الموجات بفترة من الثقة المفرطة تدفع أسعار الأصول الرأسمالية لمستويات شديدة الارتفاع، وتسبب الزيادات الواضحة في الثروة تناميا مفرطا في الاقتراض والإقراض والإنفاق.

بعد انفجار الفقاعات، تختفي الرغبة في الاستثمار. بدلا من ذلك، تبقى وفرة من رؤوس الأموال بسبب الاستثمار المفرط خلال فترة الثقة، وبذلك نجد منازل خالية ومراكز تسوق تجارية، من دون مستأجرين ومصانع من دون عملاء. في تلك الأثناء، يكتشف العملاء أنهم يملكون ثروة أقل مما كانوا يظنون، وأنهم يواجهون ضغوطا أكبر عما سبق واعتقدوه. وتتزايد الضغوط على الإنفاق الخاص بسبب تغييرات هيكلية. وتوفر صناعة النشر مثالا قويا على ذلك، مع انسحاب متاجر الكتب المحلية لصالح المتاجر الكبرى ومواقع بيع التجزئة عبر الإنترنت التي تبيع كتب إلكترونية، حدث أمران، وهما أن الإمكانات الإنتاجية للاقتصاد زادت، وقدرته على توليد طلب تضررت مع تحويل الموارد من مشتري التجزئة من أبناء الطبقة الوسطى وأصحاب الميول للإنفاق نحو آخرين يتسمون بميل أقل كثيرا نحو الإنفاق.

ما العمل إذن؟ ليس هناك وقت للجبرية أو الأجندات السياسية التقليدية. وتدور المفارقة الكبرى المرتبطة بالأزمة المالية حول أنها في الوقت الذي ظهرت فيه جراء قدر مفرط من الثقة والإقراض والاقتراض والإنفاق، فإنها تحسم فقط عبر زيادة الثقة والاقتراض والإقراض والإنفاق.

من الخطأ اقتصاديا إرجاء صيانة البنية التحتية وعمليات الإحلال عندما تكون معدلات الفائدة لـ10 سنوات أقل من 3 في المائة، وتقترب معدلات البطالة بمجال البناء من 20 في المائة. وينبغي أن تتحرك السياسات المتبعة على الأصعدة الأخرى بدافع من نقص الطلب، الذي يمثل سمة مميزة لاقتصادنا.

وتبذل إدارة أوباما جهودا مهمة لتحديث إجراءات السيطرة على الصادرات، والترويج للمنتجات الأميركية في الخارج، وإقرار اتفاقات تجارية. ومن الممكن بذل مزيد من الجهود عبر تغيير سياسة الفيزا، مثلا، للترويج للسياحة والخدمات التعليمية والطبية.

وينبغي السعي لتطبيق التوجيهات الرئاسية المرتبطة بالتخفيف من القيود التنظيمية غير المناسبة، سعيا لتعزيز الثقة. ويتمثل التهديد الأكبر أمام مستوى ملاءة البلاد في استمرار النمو البطيء لفترة طويلة، مثلما حدث بجنوب أوروبا، الأمر الذي يتسبب في تفاقم معدلات الديون لإجمالي الناتج الداخلي. وينبغي أن يتزامن مع المناقشات حول الإجراءات متوسطة المدى لتقييد الإنفاق ورفع العائدات التركيز على النمو على المدى القصير. ومن دون التخفيضات الضريبية وتأمين البطالة الذي تفاوض الرئيس والكونغرس حوله، الخريف الماضي، ربما نواجه ركودا قويا. وسيكون سحب الدعم المالي بقوة عن الطلب بحلول نهاية 2011 سابقا لأوانه. وينبغي توسيع نطاق الدعم المالي عبر إقرار تخفيضات ضريبية لأصحاب الأعمال والموظفين. زيادة حصة التخفيضات الضريبية على الرواتب من 2 في المائة إلى 3 في المائة أمر مرغوب أيضا.

تبلغ تكلفة هذه الإجراءات على المدى القريب أكثر قليلا من 200 مليار دولار، وتطرح إمكانية إحداث تحسين كبير في الأداء الاقتصادي على مدار السنوات القليلة المقبلة يترجم إلى زيادات كبيرة في القاعدة الضريبية وخفض في النفقات الحكومية الضرورية. لقد نجحنا في تجنب الكساد عبر العمل بحسم خلال عامي 2008 و2009. والآن يمكننا تجنب قرابة عقد كامل مفقود من خلال إعادة تنظيم واقعنا الاقتصادي.

*خدمة «واشنطن بوست»

* الكاتب الرئيسي السابق لجامعة هارفارد وعمل وزيرا للخزانة في عهد إدارة كلينتون، كما عمل مستشارا اقتصاديا للرئيس أوباما عامي 2009 و2010