ثورات عربية بلا ثوار

TT

مع أن الاهتمام منصب على مدينة الزاوية المجاورة لطرابلس، وتهدُّد حكم القذافي، حيث تدور رحى حرب الثورة الليبية، وعلى جسر الشغور، حيث يفر آلاف السوريين، وعلى المستشفى العسكري السعودي، حيث يرقد الرئيس اليمني الجريح المحترق، وعلى شباب ميدان التحرير المصري في جدلهم مع القيادة العسكرية الحاكمة، هناك في الظل ثورات عربية أخرى هادئة لا تقل أهمية. فهي وإن لم تمس تغييراتها كيانات القيادة فقد تُغير في صيغة الحكم. أبرزها وعد به العاهل المغربي من تعديلات عليا، بحيث ينقل جزءا كبيرا من السلطات إلى البرلمان. وعليه تكون للأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات سلطة حقيقية بتشكيل الحكومة وتولي حقائب سيادية، أي الانتقال من شراكة كانت فيها الحكومة ديكورا.

المخزن، القصر الملكي، ربما يريد أن يقلل من تحمل مسؤوليات الدولة التي يعرف جيدا أن ظروفها ستزداد تعقيدا مع تزايد توقعات الشعب. سترتفع مطالب الناس الخدمية التي لن يمكن احتمالها ماديا وسياسيا. ويبدو أن هذه الوعود تنسجم مع شخصية العاهل المغربي، الملك محمد السادس، الذي يُظهر اهتماما أقل بالدور السياسي العام، وإن كان قد أمضى سنواته العشر الماضية في مشروع التطوير المحلي ويؤيد فكرة اللامركزية. الأردن، هو الآخر، يبدو أنه على أبواب تغييرات مماثلة بمنح الحكومة سلطات أوسع. هذا ما أعلنه الملك عبد الله الثاني شخصيا أول من أمس. ستكون الحكومة منتخبة من النواب المنتخبين، لا معينة، وستكون صلاحياتها أوسع. أيضا، الملك قد يجد في توسيع صلاحيات الحكومة فرصة لنقل كثير من مشكلات المواطنين إلى كاهل السياسيين الذين انتخبوهم، وتخفيف الضغط على القصر.

وقد لا تبدو هذه التحولات السياسية مثيرة مثل ثورات الشارع في مصر وتونس واليمن وسوريا، لكنها في الواقع قفزات مهمة في مفهوم الحكم وإدارة الدولة. فالدولة العربية الحديثة زادت سلطاتها في العقود الأخيرة ووسعت من مسؤولياتها، وهي الآن تكتشف أن لذلك ثمنا باهظا. وفي بعض نماذج الحكم يكون الوضع معقدا والتحدي أكبر. ففي البحرين، وهو النظام الملكي الوحيد في المنطقة الذي واجه احتجاجات شعبية تحدت سلطاته، توجد ديمقراطية جزئية، وعلى الرغم من استعداد السلطة للتنازل عن مزيد من صلاحياتها، لن تستطيع أن تأخذ مقابلها شيئا من الشارع. البحرين ليس بلدا نفطيا، مع هذا حكومته تتصرف كبقية دول الخليج البترولية، ملتزمة بإعانة بعض السلع الرئيسية وتقدم معونات للعاطلين عن العمل ولا تفرض ضرائب كما يحدث في الأنظمة المنتخبة.

هذه المسؤوليات التي ترهق كاهل الأنظمة ستدفعها في الأخير نحو المزيد من الإصلاح السياسي. فالباحثون عن عمل في ازدياد، والمطالبون بتحسين مرتباتهم في إلحاح، ونقد الدولة لا يتوقف بسبب نقص الخدمات الطبية والتعليمية، والشكوى من ارتفاع أسعار المواد الغذائية تحولت إلى عملية جلد للحكومة بشكل يومي. وبالتالي، لم تعد السلطة متعة كما كانت قبل زمن الثورات، انتخاب الحكومة بدل تعيينها ينقل هموم الناس إلى أكتاف الذين انتخبوهم بدرجة أساسية. وهذا ما دفع دولا مثل المغرب والأردن إلى استباق الأزمات بتوسيع المشاركة، ما دام ينقل أسوأ جوانب الحكم، مسؤولية خدمات الشعب إلى الشعب.

وتتباطأ دول في تقديم مشروعها الإصلاحي، مثل الجزائر، التي تأخرت طويلا منذ ثورة شارعها في أواخر الثمانينات. وهناك دول قادرة فضلت طرح علاجات اقتصادية مثل دول الخليج مستفيدة من ارتفاع مداخيلها النفطية، مع إصلاحات سياسية جزئية، وستكتشف لاحقا أن الأرخص ثمنا وأسهل قيادة هو نقل المزيد من الصلاحيات للمجالس المنتخبة.

[email protected]