لم أقصد شخصا بعينه

TT

عندما كتبت مقالا بعنوان «رئاسة الخارجية: التوريث وأول اختبار للثورة في مصر»، جاءتني ردود معاتبة من بعض الدبلوماسيين المصريين، والعتاب عند الدبلوماسيين هو تعبير عن الغضب، واتصل بي صديق آخر من القاهرة في مكالمة دولية طويلة يعنفني على المقال، لأنني حسب رؤيته كتبت المقال خصيصا لأقلل من فرص وصول السفير المصري السابق في واشنطن نبيل فهمي، إلى المنصب، أو أن المقال حسب وصف بعضهم كان موجها ضد نبيل فهمي، لأنه هو المرشح الذي كان أبوه وزيرا لخارجية مصر، الوزير إسماعيل فهمي. وأؤكد لهؤلاء الغاضبين ونحن نقترب من ترشيح وزير خارجية جديد لمصر بعد تعيين نبيل العربي أمينا عاما للجامعة العربية، أنني لم أكن أقصد شخصا بعينه، ولم يكن السفير نبيل فهمي هو المقصود كما قرأ هؤلاء المقال.

الهدف من المقال هو طرح مواجهة صريحة حول مسألة التوريث في مصر، هل هي كانت ضد جمال مبارك وانتهت، أم أننا أمام ثورة حقيقية ضد التوريث تقتلع هذا النظام السيئ في المجتمع المصري من جذوره؟ كانت مكالمات طويلة، وأعترف أنني لست جيدا في الردود الشفوية، لأنني أفضل الكتابة على الكلام، وأصابني بعد كل مكالمة صداعا شديدا، لأن الحديث يتشعب ولا تعرف هل أنت متهم بشكل شخصي أم الحديث ما زال يدور حول المقال وجوهره.

لقد عرفت نبيل فهمي أثناء عمله في واشنطن سفيرا لمصر هناك، كنت أيامها أستاذا للسياسة بجامعة جورج تاون وكنت أظهر كثيرا في وسائل الإعلام الأميركية وكنت أسأله عن رؤية مصر لبعض الأحداث من باب العلم بالشيء، وكان مهنيا متعاونا، رغم أنه لم تكن بيننا صداقه، فلم أزره في بيته ولم يزرني في بيتي ولم نلتق على فنجان قهوة بشكل اجتماعي، وما زلت أعتقد أن السفير فهمي رجل دبلوماسي محترف، وربما من أفضل من قابلت من الدبلوماسيين المصريين، ولكنني لا أتصور أنه من الممكن أن أكون صديقا له أو أن يكون صديقا لي، فنحن من عالمين مختلفين تماما، ولكن هذا لا يمنع من الإشادة بمهنيته وحرفيتة. أظن أن هذا كاف. ومع ذلك يبقى السؤال، هل الثورة كانت ضد توريث جمال مبارك الذي لم يحدث أم أنها ضد التوريث في كل مناحي الحياة في مصر؟

قبل الحديث عن التوريث، يجب الحديث عن وظيفة وزير الخارجية المصري، كتوصيف لمتطلبات الوظيفة، أو ما يسمى في الغرب «جوب ديسكربشن»، كما أنه ضروري في فترة ما بعد الثورة أن يقول لنا القائمون على الاختيار بشفافية عن معيار الاختيار عندهم؟ أي لماذا يختار المجلس زيدا للوظيفة ولا يختار عبيدا؟ وضوح معيار الاختيار أمام الرأي العالم يكسب الناس ثقة في أنفسهم وفي كيفية إدارة بلدهم، أما أن يخرج علينا المجلس باسم لا نعرفه ولا نعرف لماذا تم اختياره؟ ولماذا؟ وأي صفقة في الظلام وفي الكواليس؟ فإذا كانت هذه هي طريقة الاختيار بعد الثورة، فلا داعي للثورة، لأنه لا جديد تحت الشمس. كان مبارك يختار وزراءه دون معرفتنا، والمجلس يفعل الشيء نفسه، إذن ما الجديد بعد الثورة، وكيف تكون مصر الثورة مختلفة عن مصر مبارك؟

«الشعب يريد أن يعرف معيار الاختيار»، هل هي الكفاءة أم أننا ما زلنا في نظام الشللية والمكافأة؟ قلت في المقال السابق إن اختيار وزير خارجية مصر سيحسم الأمر بالنسبة لنا حول ما إذا كان المصريون قد اقتنعوا بأنهم قد حلوا مشكلة التوريث بإقصاء جمال مبارك عن المشهد، أم أن لديهم الجرأة على الحديث عن التوريث بشكل عام، في كل مؤسسات الدولة، ولا «نقفل على الموضوع عند جمال مبارك ونسيب الباقي لأنهم أقاربنا نحن»؟ ومع أن هذه النقطة ليست كل موضوع اليوم، إلا أن من يتولى رئاسة الخارجية المصرية بعد نبيل العربي سيكون محط اهتمام المصريين جميعا، وذلك لأن الخارجية بتركيبتها الحالية تبدو وكأنها تقع في مرمى نيران الثورة. فأول أهداف الثورة كان القضاء على فكرة توريث جمال مبارك حكم مصر وتحويل مصر إلى إقطاعية. فأنا أدعي أن ملف التوريث كان من المحركات، بل المحرضات الأساسية للثورة.

فإذا كان ملف توريث جمال مبارك للحكم هو محرك الثورة، وإذا كانت الخارجية المصرية في الوعي الشعبي هي مؤسسة التوريث بامتياز، فكيف سيتعامل الثوار مع وزير الخارجية القادم. أدعي أن وزير الخارجية القادم سيكون ترمومتر اختبار نجاح الثورة وفشلها، فإذا تم اختيار وزير من أبناء الوزراء والسفراء السابقين ممن كانوا على قائمة التوريث في عهد مبارك، فمعنى ذلك أن الثورة فشلت في تحقيق أول أهدافها وهو القضاء على ظاهرة التوريث. ما زلت أنا عند هذا الرأي ولم يتغير شيء في قناعاتي، رغم كل المكالمات التي وصلتني، ورغم كل الرسائل المتوعدة.

بالطبع في المقابل كانت هناك مكالمات ورسائل من شباب الخارجية ممن يقعون خارج مدار التوريث ومرماه، ويتمنون أن تتاح لهم الفرصة في شغل المنصب الأعلى في الخارجية، وبعضهم مؤهل لهذا المنصب الرفيع، لكن ليس بإقصاء من هم توريثيون يعني أن نتبنى مطالب الثوريين، ونلقي بالمعايير الموضوعية في البحر. لا بد وأن تكون هناك معايير صارمة وواضحة في اختيار المناصب العليا في الدولة بعد الثورة، وحتى الآن لا نعرف ما هي هذه المعايير، فالدنيا في مصر الآن تدار على قديمها، كما يقولون. أو بلغة الجيش، كما كنت. وليطمئن من هاتفوني، فبكل تأكيد سيأتي الوزير القادم من مدرسة التوريث، لا من مدرسة الثورة، وأراهن على ذلك.