ابحثوا عنه واتركوا له الباقي

TT

لم أعرف الحبيب بورقيبة؛ لأن في أيامه كان التعرف إليه خيانة وعمالة للإمبريالية. كانت سطوة توزيع الشهادات الوطنية في يد الناصرية، ثم في يد الثورة الفلسطينية. وكلاهما كان يكره بورقيبة. وعندما فقدت منظمة التحرير الحق الحصري في تعيين الوطنيين والخونة والرجعيين، كتب الأخ هاني القدومي، أبو اللطف، رسالة مسهبة في توصيف وطنية بورقيبة وقوميته وثوريته وأفضاله على الأمة، لم يحلم بكتابتها أي تونسي.

تجنُّب التعرف إلى بورقيبة كان يعني تلقائيا تحاشي السفر إلى تونس، التي ذهبت إليها في نهاية المطاف مرة واحدة، وبحثت فيها عن آثار بورقيبة، فوجدتها في الحداثة والجادات والقانون والثقافة. ووجدت أن تونس مبنى، وضع زواياه وأسسه رجل قصير الساقين، عالي الرأس، عالي الهمة، عالي الخلق، وعاشق بهي لتراب تونس. وأنا أفضل كلمة الأرض على التفصيح السخيف في استخدام كلمة التراب؛ لأن التراب موت، والأرض حياة أبدية. لكن الإخوان المغاربة أصروا على استخدام مفردة «التراب» لكي يتميزوا عن المشارقة. يا سيدي فليكن.. فالذين مثل بورقيبة يحولون التراب إلى أرض.

تدور نقاشات كثيرة في تونس اليوم، حول قضايا كثيرة وشؤون كثيرة وأخطاء كثيرة. ومن غير عمد وبكل عفوية، لا يناقش أحد تمثال - وليس صنم - الحبيب بورقيبة. الرجل قصير الساقين وعالي النضال والصدق وحب الناس، الذي حمل إلى تونس مزهريتين من الذهب لا تكسران ولا تصدآن ولا تبهتان: الاستقلال والتعليم، ومعهما حق المرأة في أن تكون إنسانة.

في كل هذا الصخب والنقد والقرقعة القائمة في تونس بعد سقوط نظام الشرطة، ينحني الناس أمام ذكرى بورقيبة. كل ذكرى منه، خصوصا يوم اتهم بالعمالة للأميركيين لأنه نصح الفلسطينيين بقبول قرار التقسيم. وبعدما شتم وعزل ومات، راحت الأمة تتوسل شيئا من قرار التقسيم.

كان بورقيبة مثل نهرو. طرد الاستعمار واستبقى معاهده. ألزم الناس بالعلم والعمل. واليوم 60% من حملة الشهادات عاطلون عن العمل، يتناوشون ويتخانقون ويتلاكمون حول شكل الدولة العتيدة. ابحثوا أولا عن بورقيبة، واتركوا لقلب مثل قلبه أن يبني لكم الدولة.