معذرة إذا كنت سوف أخرج قليلا عن عالم الثورات العربية بمآسيها وحسناتها، وما تثيره لدى الكاتب والجمهور معا من ترقب لما سوف يجري ويكون في ساحتنا العربية. لكن ما سوف يأتي لن يكون منفصلا بحال عما يجري، فقد كان التطور الهائل في وسائل الاتصال واحدة من أدوات الثورات العربية الحالية، والساحة التي خرجت منها المدونات التي قالت بما لم تقل به وسائل الإعلام التقليدية، والـ«يوتيوب» أو الأفلام القصيرة التي نقلت وقائع للتعذيب والقهر وأصبحت واحدة من وسائل هز الهيبة والثقة في النظم القائمة، وأخيرا كان الـ«فيس بوك» مع وسائل أخرى رابطة التواصل بين أجيال وجماعات ثائرة.
وضمن ذلك كله كان «غوغل» أشهر المحركات التي تعمل سواء في مجال المعرفة العامة؛ أو في مجال الاتصال والتواصل بصورة لحظية، بل إن «غوغل إيرث» كان أحيانا ما يُستخدم كأداة عسكرية يراقب من خلالها الثوار حركة قوات الأمن وهي تقوم بالحشد والتعبئة والاستعداد للهجوم على الميادين المختلفة التي تشهد الثورة والفورة.
لكن هذا الوجه المعروف لشركة «غوغل» يجب ألا يغفل وجوها أخرى بدأت في الظهور حين صارت واحدة ليست من الشركات العالمية، وإنما واحدة من الإمبراطوريات العالمية التي تدخل في مواجهات سياسية مع دول، فضلا عن مواجهات اقتصادية مع شركات وإمبراطوريات أخرى. كل ذلك يحتاج إلى تفصيل بالطبع، لكن النقطة المثارة هنا أن تصرفات وسلوكيات «غوغل» لم تصبح فقط مؤثرة على حياة الأفراد، بل أيضا على حياة الأمم. والخطير هنا أن كل ذلك يحدث دون مساءلة من أي نوع من هؤلاء الذين يتعاملون مع هذه الشركة. سوف نترك جانبا هنا أنه لا أحد يعلم كيف تدفع شركة «غوغل» الضرائب على سبيل المثال عن الإعلانات التي تقوم بوضعها على الرسائل التي يرسلها المشتركون في نظامها البريدي.. ولا أحد يعلم كيف يمكن التعامل مع حرب تجري بين «غوغل» والصين يحدث على أثرها قيام دولة عظمى بالتدخل في العالم الافتراضي وإفساد حركات البريد والمدونات وأي كان من وسائل التواصل. لم يشترك أحد، لا برلمان، ولا جمهور، في قرارات شركة «غوغل»، لكن مواطني العالم بدأوا يدفعون ثمن مواجهة لم يقررها ولم يدفع لها أحد، بل إن ذلك قد يكون في خدمة دولة أو دول لا يشارك من يدفع ثمن المواجهة في التصويت لسياساتها.
قصتي مع «غوغل» بدأت منذ وقت طويل، فمع كل الذين يرون في العولمة والتطور التكنولوجي في مجال المعرفة والمعلومات أمرا تقدميا ومفيدا للبشرية، فإن الشركة وقصة صعودها المثيرة كانت مبهرة بكل المقاييس. وعندما قالت الشركة إن محركها البريدي آمن بشكل كامل كان ذلك التزاما من الشركة بحماية كل أنواع البريد التي تمر من خلالها. لكن يوم الثلاثاء السابع من يونيو (حزيران) الحالي، وفي الساعة الرابعة تماما، جرى اختراق البريد الخاص بي، ليس بمجرد رسالة تقول لي إن هناك مليون دولار في انتظاري في مكان ما، أو أنها تبشرني بجائزة كبرى وهمية، وإنما كان الاختراق لصحيفتي الخاصة لدى «غوغل»، والتي توجد بها كلمة الدخول السرية الخاصة بي، وكل ما لدي من معلومات، بما فيها البريد الآخر الذي طلبت «غوغل» مني أن أسجله أيضا.
هذا الذي قام بالاختراق قام بمجموعة من العمليات، أولاها كانت تغيير كلمة الدخول؛ وثانيتها المسح الكامل لكل ما في بريدي الخاص الذي صدقت «غوغل» بأنه لن يكون بريدا فقط، بل إنه في الحقيقة الأرشيف الخاص بعملي ومراسلاتي. والثالثة إرسال رسالة إلى كل من في صندوق البريد الخاص بي يطلب منهم تحويل أموال إلى «ويسترن يونيون» لكي ينقذوني بعد ضياع نقودي وحقائبي في مدينة مدريد. الأغلبية ممن كانوا على الصندوق فهموا أن المسألة هي عملية نصب، لكن أقلية منهم وجدوا معلومات كثيرة عني ربما تجعل الرسالة صحيحة. لكن لحسن الحظ أن الأصدقاء والمعارف قاموا بالاتصال وعرفوا أن في الأمر اختراقا من نصاب دولي في مكان ما في العالم الافتراضي لا نعرفه ولا يمكن العثور عليه، ووسيلتنا الوحيدة في التعامل معه هي وعد الأمان الذي حصلنا عليه من شركة «غوغل» بأن نظامها البريدي غير قابل للاختراق.
هذه القصة ليست شخصية، لكنها قصة العالم المعاصر الذي نعيش فيه، وليس جائزا الآن العودة مرة أخرى لكتابة الرسائل وإرسالها على أجنحة الحمام الزاجل، أو إرسالها على ظهور الخيول أو حتى القطارات والسيارات. لقد تغير العالم ولم يعد هناك من سبيل للعودة إلى الماضي مرة أخرى. لكن المشكلة هي على وجه التحديد على ما يلي: ما هي مسؤولية شركة «غوغل» عما حدث وهي التي يقع على كاهلها، وتحقق منه مكاسب طائلة، كما هائلا من الاتصالات العالمية؟ فما جرى كان بالفعل مدهشا، حينما قام السيد وائل الفخراني، مسؤول شركة «غوغل» بالقاهرة، بإنكار حدوث اختراق لنظامهم البريدي؛ وكان الدليل الوحيد المطروح أنه لولا أن كان النظام آمنا لما اشترك فيه الملايين من المشتركين، وكأن إقبال الكثرة من الناس على الإيداع في بنك من البنوك يعطي هذا البنك الحق في إهمال حماية هذه الأموال أو المسؤولية عنها. وببساطة وفي البنوك ومكاتب البريد هناك عمليات للتأمين تجري على الأموال والطرود التي يجري تداولها، فإذا ما أصابها ضرر دفعت شركات التأمين التعويض المناسب.
شركة «غوغل» لا يوجد لديها أي نوع من التأمين، وهي التي يتعامل مع بريدها الملايين من البشر تضع على رسائلهم إعلانات تسد وجه الشمس لا تدفع عنها أي نوع من الضرائب؛ ولا تدفع عنها أي نوع من التعويض عند حدوث اختراق للمراسلات الشخصية التي لا يجوز ليس فقط لأحد الاطلاع عليها، وإنما أيضا العبث بها.
مرة أخرى القضية ليست شخصية، وإنما هي قضية التنظيم العالمي لأدوات جديدة من التكنولوجيا صارت جزءا من حياتنا. وعندما جرى اختراع الطائرة على سبيل المثال، وصارت واحدة من أدوات سفر البشر، أصبحت هناك منظمة عالمية (اياتا) تنظم عمليات الصعود والهبوط في المطارات الدولية، ووسائل وقواعد حماية الركاب والتأمين عليهم. وجرى ذلك على كل التطورات التكنولوجية التي عرفتها البشرية؛ فلماذا تهرب شركات «غوغل» و«مايكروسوفت» و«أبل» وغيرها من عملية التنظيم العالمي هذه وهي الشركات التي باتت تهيمن على شريحة كبيرة من الاقتصاد العالمي وحركة الاتصالات الدولية؟
هذه قضية تخص العولمة وتنظيمها عالميا، وقد كان الظن أن شركات القرن الحادي والعشرين سوف تكون أفضل حالا من شركات قرون سابقة من حيث المصداقية، لكن يبدو أن الفارق ليس كبيرا!!