الجيش والثورة

TT

العامل الحاسم في الثورات العربية حتى الآن من تونس، إلى مصر، إلى اليمن، إلى سوريا، إلى ليبيا، إلى البحرين، هو مع من يقف الجيش الوطني، ومدى ولائه، ونوعية هذا الولاء، وهو الذي يخلق التنوع والاختلاف في نوعية الصراع ونتيجة الثورة.

فمثلا كان واضحا في حالة تونس أن الجيش انحاز إلى الشعب، والجيش هو الذي سهل للرئيس السابق بن علي عملية خروجه إلى غير رجعة دونما تحديد وجهة نفيه، وتركه معلقا في الهواء حتى قبلت المملكة العربية السعودية استقباله كلاجئ سياسي بشروط واضحة. كذلك في حالة مصر كان واضحا من ثاني اجتماع مفتوح للمجلس الأعلى من دون مبارك هو أن الجيش بدأ يميل إلى تأييد الشارع، ثم جاء ذلك واضحا في بيانه رقم واحد أن الجيش يؤيد المطالب المشروعة للشعب. وقيل الكثير عما حدث من مواجهات بين المشير وزوجة الرئيس المخلوع، وبين الرئيس المخلوع ورئيس الأركان، الذي قيل إنه ضرب الباب في وجه الرئيس عندما طلب منه تصفية ميدان التحرير، ومحاولة جمال مبارك إقالة المشير، ومكالمة سوزان مبارك مع المشير التي سمعها أعضاء المجلس وانحازوا بعدها للشعب لما كان فيها من ألفاظ لم يقبلها الجيش، أو أن الجيش أخذ موقفا ضد مبارك بعد محاولة اغتيال عمر سليمان، ربما كل ذلك يبقى في إطار التفاصيل والظروف التي أدت بالجيش لأن ينحاز إلى صف الثورة، لكن القول الفصل في الأمر هو أن الجيش أقال مبارك وتملك زمام الأمور وبهذا نجحت الثورة. قد نختلف أو نتفق على إدارة الجيش لمرحلة ما بعد مبارك، إلا أن ولاء الجيش للشعب حسم الأمر في النهاية.

في ليبيا يبدو أن الجيش ليس كله مع العقيد، وأن جزءا من الجيش قد انضم إلى المعارضة، ولكن ليس بالقدر الكافي؛ وهذا ما أوصلنا إلى حالة الصراع التي نراها في ليبيا اليوم. جزء كبير من الجيش بقي مع العقيد، وجزء آخر ذهب مع الثوار، وسالت الدماء، بدرجة سنرى نتائجها في نوعية الدولة أو الدويلات الناتجة عن الثورة في ليبيا، ويبقى حمَلة البنادق هم العناصر الحاسمة في المعادلة.

في سوريا نرى جيشا مختلفا تماما، فحتى هذه اللحظة لم نر انشقاقا في الجيش، قد نرى انقلابا داخل الجيش، ولكن مسألة انقسامه غير واردة، وذلك لطبيعة التركيبة الخاصة بالجيش السوري وقياداته التي في أغلبها تنتمي إلى الطائفة العلوية. تلك الطائفة التي ترى في نهاية حكم بشار الأسد نهايتها، وبالتالي هي ستقاتل إلى آخر رجل، سواء في الجيش أو خارجه، نتيجة للطبيعة الطائفية التي اتخذتها الاحتجاجات في الشارع. إذن مسألة انسلاخ الجيش في سوريا غير واردة، ويبدو أن الجيش لن ينحاز إلى المتظاهرين في وقت قريب، إلا إذا ارتأت قيادة الجيش أن انقلابا عسكريا هو المنقذ للنظام الذي يعاني من الضغط الداخلي، وحتى هذه لن تكون مقبولة، لأن اللحظة العالمية هي لحظة ديمقراطية لن تقبل بالانقلابات العسكرية ولن تكون هناك رغبة لدى أميركا أو أوروبا في تأييد انقلاب عسكري في سوريا.

أما في اليمن، فواضح أن الجيش ما زال مع الرئيس علي عبد الله صالح، باستثناء بعض القيادات من حاشد التي تركت الجيش ولكن كتائبها لم تترك معها. الثورة في اليمن لها زخم كبير، ولكن يبقى الجيش مع الرئيس، ولن ينتهي المشهد إلا من خلال قرار يتخذه الجيش بإعلان موقف واضح. وإذا أخذنا في الاعتبار أن أبناء علي عبد الله صالح وأبناء عمومته هم من يسيطرون على مفاصل القيادة في الجيش وفي المخابرات العسكرية، يبدو من الصعب الجزم بأن الجيش سيترك الرئيس في القريب العاجل. رغم تعدد الولاءات القبلية للجيش اليمني، يثير دهشتي ودهشة آخرين، كيف استمر الجيش في ولائه للرئيس حتى هذه اللحظة؟ ولكن الأيام قد تكشف عن الكثير.

ما أود قوله في هذا المقال؛ إنه رغم كل الزخم الشعبي الذي رأيناه في مصر وفي تونس، وهو زخم تاريخي يستحق التقدير والإشادة، وعمل بطولي بامتياز، فإن «الكارت» الحاسم في تلك اللعبة لم يكن الشهداء الذين قتلوا في الشارع، ولم تكن المليونيات التي رأيناها في الميادين، بل موقف الجيش كان هو الفيصل، ومن هنا علينا أن نراقب في سوريا وليبيا واليمن الاتجاهات التي تشير إلى انحياز الجيش لجبهة ضد أخرى، متى ما رأينا الجيش يميل في اتجاه، فيجب علينا أن نقبل بأن المعركة قد حسمت لصالح الجهة التي ينحاز إليها الجيش. وأيا كانت المليونيات، وأيا كانت صفحات الـ«فيس بوك»، أو قدرات «تويتر» على تسهيل التواصل بين المواطنين، يبقى الجيش هو الفيصل في ثورات العالم الثالث.