متى يغني الإسلاميون العرب كأردوغان؟!

TT

خلال العقد الماضي، حقق حزب العدالة والتنمية، التركي، نجاحات كثيرة، لعل أبرزها فوزه، هذا الأسبوع، بولاية ثالثة، وارتفاع نسبة فوزه في الانتخابات من 43% في انتخابات 2007 إلى 51%. إن هذا النجاح - بالطبع - يُحسب للحزب الذي استطاع أن يجعل تركيا أكثر ثراء، وأكثر قدرة على المنافسة في الأسواق الاقتصادية العالمية، بل إن صحيفة الـ«فاينانشيال تايمز» ذكرت أن الأسواق العالمية تلقت، بارتياح، أنباء فوز الحزب، واستمرار قيادته للاقتصاد التركي حتى 2015.

منذ وصول الحزب للحكم في 2002، قام بسلسلة إصلاحات اقتصادية/ ليبرالية نالت استحسان الكثيرين، بحيث استطاع مضاعفة الناتج الإجمالي المحلي، وتحقيق نسبة نمو تتجاوز 11% في 2010. صاحب هذا الأداء المتميز انفتاح دبلوماسي ونشاط تركي باتجاه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بين عامي 2002 و2005، ثم انعطاف كبير باتجاه الشرق الأوسط بعد انتخابات 2007، التي ضمنت فرص الحزب في البقاء بالحكم بعد هزيمة الجيش والتيار العلماني/ القومي في أكثر من مناسبة تشريعية، وقضائية. يضاف إلى ذلك أن الحزب أجرى مجموعة من الإصلاحات التشريعية التي حسنت بعضا من الحريات الشخصية، والحقوق الفردية بالنسبة للأقليات، مما جعله يحظى باحترام الكثيرين حتى في صفوف المعارضة.

لكن على الرغم من هذا النجاح كله، فإن الحزب ما فتئ يثير الشكوك، ويرفع من حدة الخلافات الوطنية في سياق محاولاته تغيير بعض مظاهر «العلمنة» في تركيا، لا سيما في قضية حجاب طالبات الجامعة، ودعم المدارس الدينية، أو استهداف الصحافيين والمعارضين السياسيين بحملات إعلامية وقانونية، بحيث بات لدى تركيا سجناء رأي يفوق عددهم ما لدى الصين. بيد أن القلق الكبير - لا سيما في الغرب - هو في ابتعاد تركيا عن حليفتها واشنطن، و«الناتو»، ومحاولات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان تحقيق شعبية في البلدان العربية والإسلامية عبر استخدام ورقة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والدفاع عن زعماء عرب مثل الرئيس عمر البشير في قضية المحكمة الدولية.

مؤخرا، تأثرت السياسة الخارجية التركية بأحداث ما يسمى «الربيع العربي»، وانطلق الرئيس أردوغان ليدعو كلا من معمر القذافي، في ليبيا، وبشار الأسد، في سوريا، إلى مغادرة السلطة، وهو تغير مفاجئ بحق أردوغان الذي كان قد تسلم جائزة القذافي لحقوق الإنسان، ورعى دبلوماسية التقارب مع نظام البعث في سوريا.

هناك مصادر قلق أخرى تتعلق بطموحات أردوغان - نفسه - الذي وعد بتعديل الدستور في حال فاز حزبه بثلثي المقاعد لتكون تركيا محكومة بنظام رئاسي على غرار النموذج الفرنسي، مما يعزز المخاوف من تحول تركيا نحو نظام سلطوي يتمكن من خلاله الحزب من إحكام قبضته على دستور البلد وتشريعاته. ولعل هذا ما دعا مجلة الـ«إيكونومست»، التي طالما أثنت على أداء الحزب الاقتصادي، إلى دعوة الأتراك إلى التصويت ضد «العدالة والتنمية» حماية للديمقراطية التركية: «نحن نوصي بأن يصوت الأتراك لحزب الشعب الجمهوري؛ لأن من شأن دعم السيد كيليجدار - زعيم الحزب المنافس - بأصوات أعلى، أن يقلل من مخاطر تغيير الدستور من جانب واحد، وأن يعطي المعارضة فرصة عادلة للفوز في الانتخابات المقبلة. وسيكون ذلك أفضل ضمانة للديمقراطية في تركيا». (2 يونيو/ حزيران).

في العالم العربي، تلقى كثير من المعجبين بتجربة «العدالة والتنمية» نبأ فوز الحزب بالارتياح، بل ذهب البعض إلى المطالبة بأن تعطى الأحزاب الإسلامية الفرصة - كما في تركيا - لتثبت نفسها، أو على الأقل فرصة التجربة السياسية التي قد تقودها إلى النضوج والاعتدال بدل الاستعداء الحاصل منذ عقود.

حقيقة، لو أن الأحزاب الإسلامية في العالم العربي كانت بالذكاء والدبلوماسية ذاتيهما، اللذين ميزا «العدالة والتنمية»، لما احتاجت إلى أحد كي يمنحها الفرصة، لكن الأحزاب الإسلامية – والآيديولوجيا التي تحملها - لا تعد بنتائج جيدة، بل ما زال أمام كبرى الحركات الأصولية - الإخوان في مصر - وغيرها في الأردن والكويت واليمن، عقود من أجل أن تبلغ فكريا وسياسيا تجربة حزب العدالة والتنمية، ثم إن نجاح الحزب يمكن أن يعزى - أيضا - إلى توافر بيئة مدنية وإرث علماني تركي مكَّن الحزب من التحول إلى الاعتدال في حين فشل نظراؤه العرب في ذلك.

هنا، لا بد من التمييز بين الجيد والسيئ في تجربة «العدالة والتنمية»، فالأداء الاقتصادي الذي حصل كان نتيجة لاتباع سياسات تحرر اقتصادية غربية، وليس بسبب تغيير الاقتصاد التركي إلى اقتصاد إسلامي. أيضا، في السياسة الخارجية نجح «العدالة والتنمية»، ليس بسبب مواقفه المتشددة ضد الغرب وإسرائيل، بل لأن مفكري - وعرابي - الحزب، أمثال داود أوغلو وإبراهيم كالين، راهنوا على ضرورة الانفتاح الدبلوماسي على أسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من أجل تعزيز فرص تركيا الاستثمارية والتجارية، وليس من أجل أن يحققوا شعبية في غزة أو الكويت أو القاهرة.

يجادل البروفسور التركي غون كوت، في حوار مع جريدة «حريات» التركية (10 يونيو)، في أن حزب العدالة والتنمية لم يخلق خطا جديدا في السياسة التركية، بل نجح فقط في المضي في خطط الانفتاح الاقتصادي والتجاري على أسواق الجوار، وهي المهمة التي فشلت في تحقيقها الحكومات الائتلافية الضعيفة نهاية التسعينات، ولعل أبرز دليل على مظاهر هذا الانفتاح هو سياسة التصالح مع دول الجوار بدءا من أرمينيا، وقبرص، وأكراد شمال العراق، وسوريا، بل يمكن اعتبار خطاب داود أوغلو امتدادا للبرنامج السياسي ذاته، الذي حاول كل من حكمت تشيتن (1991 - 1994)، وإسماعيل جيم (1997 - 2002) التبشير به داخل المؤسسة التركية الحاكمة. أما بخصوص الابتعاد عن الغرب، فيقول كوت إن الابتعاد كان - أيضا - من الطرف المقابل؛ بحيث إن تركيا كانت مستاءة من تقليل أميركا وإسرائيل لمشاريع التعاون بين البلدين.

هناك مشكلة في قراءة تجربة «العدالة والتنمية» في دول العالم العربي، تتمثل في اختصار نجاح الحزب لكونه إسلاميا، أو استنادا لمواقف أردوغان وخطبه الشعبية، في حين أن نجاح الحزب يكمن في أنه لعب حسب الشروط السياسية، ووفقا للدستور والقانون، وليس من خلال الانقلاب على مؤسسات الدولة. هاهو الحزب، على الرغم من مرور عقد من الزمن وهو في الحكم، لم يفلح في تغيير الدستور العلماني للبلاد، ولم يتمكن من فرض وصايته الدينية على حريات الناس.

طبعا إذا قارنت ذلك بمطالب الإسلاميين وشعاراتهم في المنطقة لوجدت أن الفارق كبير للغاية؛ ففي مصر هناك دعوات لتجمع أكثر من مليون ملتحٍ لإثبات حضور الإسلاميين في الساحة المصرية، وفي الكويت يتم تعطيل العمل الحكومي لسنوات من أجل الفصل بين الجنسين في الجامعات، وفي إيران هناك حملة حكومية لنزع أطباق البث الفضائي تحت شعار حماية الأخلاق، فأين إسلاميو المنطقة من إسلاميي تركيا؟!

هناك جانبان لتجربة «العدالة والتنمية»، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، ومن الخطأ أن يتم احتساب أخطاء الحزب - ورغبات بعض رموزه - على أنها أسباب النجاح. بوسع الأحزاب والجمعيات الإسلامية في المنطقة أن تستفيد من التجربة، وذلك بالاقتداء بجانبها المضيء والإيجابي، وليس عبر استخدامها كدلالة على نجاح التجربة الإسلامية في الحكم بعامة. تصريحات أردوغان الشعبية وخطبه ليست هي الحزب، بل هناك فريق كامل من المفكرين والإداريين النافذين الذين تمكنوا من صناعة تجربة ناجحة، لقد كانت كاريزمية أردوغان مهمة لهم، ولكن رأينا مرارا كيف كانوا يسعون إلى تفريغ خطبه الرنانة من محتواها متى ما أحسوا بأنها تعرض مصالح الحزب للخطر.

هؤلاء كانوا تلاميذ نجم الدين أربكان، وغيره من الإسلاميين المتشددين، ونجاحهم كان بالانقلاب على الحرس القديم وتغيير آيديولوجيا الحزب وطريقة ممارسة السياسة لتتوافق مع الشروط المدنية والعلمانية للدولة، وهذا ما ينبغي على الإسلاميين في المنطقة القيام به إذا أرادوا أن يستلهموا تجربة «العدالة والتنمية» في تركيا.

لقد ظهر أردوغان على إحدى القنوات التركية يغني قصيدة غزلية إلى جوار فرقة موسيقية كي يكون جذابا للناخب التركي، والسؤال: هل سيتمثل الإسلاميون العرب نموذج أردوغان فيغنون للناخب العربي؟!