بطانة السوء

TT

مع استمرار عمليات القمع للاحتجاجات الشعبية في سوريا، يتذكر المرء الحديث الذي أدلى به رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد أحد رجال الحلقة الضيقة المتنفذة في موقع القرار، لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. ففي ذلك الحديث كشف الرجل عن الكثير من الأوراق ليست أقلها الرسالة الموجهة إلى إسرائيل «لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا»، إلا أن أهمها، في تقديري، ما قاله عن أن قرار الحكومة هو أن تحارب وتواجه الاحتجاجات حتى النهاية. وشرح الرجل، الذي تمحورت الكثير من الاحتجاجات حول نشاطاته، كيفية تفكير النظام عندما أشار إلى أن الطبقة الحاكمة تؤمن بأن بقاءها يحتم عليها التوحد في مواجهة الاحتجاجات «فكل واحد منا يعرف أننا لن نستمر ما لم نبق موحدين»، على حد تعبيره.

هذا النهج في التفكير يفسر لجوء النظام السوري إلى العنف منذ البداية، بعد أن غلَّبت الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس خيار «القمع» على خيار التنازلات والإصلاحات. فالقرار، وفقا لرامي مخلوف، لم يُتخذ بشكل فردي بل بصورة جماعية، أي من قِبَل مجموعة ترى أن بقاءها مرتبط ببقاء النظام، ومصالحها مرهونة باستمرار القبضة الحديدية والسيطرة التامة على مفاصل الدولة العسكرية والأمنية، والاقتصادية بالطبع.

في اليمن أيضا تحدثت الكثير من الدوائر العليمة عن أن أقارب الرئيس علي عبد الله صالح وبعض المقربين الذين يسيطرون على الكثير من المواقع السياسية والأمنية والعسكرية، وعلى الموارد الاقتصادية، كانوا يضغطون عليه كي لا يتنحى. ربما من هذا المنطلق بدت مواقفه متذبذبة في كثير من الأحيان، وتصريحاته متأرجحة بين الاستعداد للرحيل وقبول التوقيع على المبادرة الخليجية، وبين الرفض للتنحي، بل ومخاطبة اليمنيين الثائرين ضد حكمه بالقول: «لن أرحل، ارحلوا أنتم». صحيح أن بعض الدوائر تقول إن علي عبد الله صالح مناور وإنه لا يريد التنحي وظل يستخدم المبادرة الخليجية كوسيلة لشق معارضيه، لكن هذا لا يلغي دور أصحاب المصالح والدائرة المحيطة بالرئيس التي تضغط أيضا لبقائه حفاظا على وجودها ومصالحها. فهؤلاء لو كانوا ممن ينطبق عليهم شيء من الحديث الشريف «من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا، جعل له وزيرا صالحا؛ إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه»، لكانوا قد أقنعوا الرئيس بالرحيل عندما قال «لقد سئمنا (من الحكم) وهناك من سئم منا، وهذه هي الدنيا»، وكان ذلك سيوفر على اليمن الكثير من الدماء والمعاناة.

المشكلة أن الأولاد والأقارب والأصهار، الذين توزعوا على المواقع والمصالح، يجعلون قرار التنحي صعبا، مفضلين القتال دفاعا عن مصالحهم لا عن مصلحة البلد، بل إنهم يصورون للحاكم أن البلد سيكون مصيره الضياع والفوضى والتمزق والاحتراب إن هو رحل. هذا المنطق الأعوج يعني أن بلدا مثل اليمن بملايينه من البشر ليس فيه من يفهم أو يستطيع أن يحكم سوى الرئيس الفرد وحاشيته التي مهما كثرت أو امتدت لن تتجاوز سوى نسبة ضئيلة من مجموع شعب أظهر الكثير من الفطنة والحكمة والشجاعة. بل إن مثل هذا المنطق يعتبر إدانة لكل حاكم أوصل بلده إلى مثل هذه الأوضاع، وفشل في حل مشكلات شعبه، وضمان الاستقرار الدائم القائم على حكم المؤسسات الذي لا يتأثر بتغير الأشخاص.

ما يقال عن اليمن وسوريا يمكن أن يقال أيضا عن ليبيا؛ حيث يقسم العقيد القذافي إنه لن يرحل ولن يتنحى، استجابة لمطالب الشعب الثائر الذي اعتبره مجموعة من الجرذان والحشاشين والمأجورين. فهنا أيضا نرى زعيما يهدد، بعد نحو 42 عاما في السلطة، بانزلاق بلاده نحو الفوضى والتقسيم، إذا لم يبق هو حاكما لها يتقاسمها مع أبنائه ويورثها لهم. وقد تبين، منذ خطاب سيف الإسلام القذافي في بداية الأحداث، أن الأبناء وبعض المحيطين بالعقيد يشاركونه التعطش للقتال، حفاظا على السلطة والمصالح.

في مصر، كما في تونس، كان هناك أيضا دور كبير للحاشية والمقربين الذين دفعوا النظام إلى حافة الهاوية، بعد أن أسهمت ممارساتهم في نشر الفساد السياسي والاقتصادي. هؤلاء أيضا تبين أن لهم دورا في التشجيع على استخدام العنف في مواجهة الاحتجاجات ودعوات التغيير؛ لأنهم رأوا في ذلك تهديدا لمصالحهم وطموحاتهم. وقد أشار تقرير لجنة تقصي الحقائق في الأحداث التي رافقت الثورة في مصر إلى مجموعة من العوامل، منها: الفساد المالي والإداري والسياسي، وإقصاء الكفاءات، والتضليل الإعلامي، أو ما يمكن تسميته النفاق الإعلامي، باعتبارها من العوامل التي أسهمت في إشعال الثورة وكان لها دور في الطريقة التي تم بها التصدي للاحتجاجات.

إن بطانة السوء تعمل دائما لتطويق الحاكم أو المسؤول، وإبعاد أي ناصح أمين من حوله، لكي لا يسمع إلا لها، ولكي تخلو لها الساحة فتعيث فسادا يطال كل شيء. هذه البطانة ليست مسؤولة فقط عن كثير من الممارسات التي أفضت بالأوضاع إلى حالتها الكارثية، بل إنها مسؤولة إلى حد كبير عن القمع والعنف اللذين ووجهت بهما الاحتجاجات.

الانتفاضات والثورات العربية ليست موضة تنتقل بمنطق عروض الأزياء أو برامج الترفيه التلفزيونية؛ لأنها لو كانت كذلك لما رأينا الصمود والتضحيات ومناظر الدماء البريئة التي لا تزال تسيل. إنها تعبير عن حالة من اليأس وصرخة من أجل الكرامة والحقوق، وهي تحدث وفقا لظروف كل بلد وتطلعات شعبه، لا بمنطق العدوى التي تنقلها الرياح. لكن على الرغم من التباينات والاختلافات بين كل حالة وأخرى، كانت هناك عوامل مشتركة لعل على رأسها الفساد والاستبداد.. وبطانة السوء.

[email protected]