أردوغان الثالث: ملك الصناديق

TT

هي المرة الأولى في التاريخ السياسي التركي التي يستطيع معها أحد الأحزاب الحاكمة أن يحتفظ منفردا بالسلطة للمرة الثالثة على التوالي معززا رصيده الشعبي والسياسي في البلاد. لكن فرحة حزب العدالة والتنمية الذي خرج من الانتخابات الأخيرة حاصدا نصف أصوات المقترعين تحولت إلى غصة في الحلق كونه لم يحقق هدف الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان التركي الذي كان سيوفر له إعلان دستور تركي جديد ينهي تحكم دستور عام 1982 الذي دعمه وأقره انقلابيو الجيش وضمنوه الكثير من المواد التي تحصن النظام العلماني الأتاتوركي القومي الذي يقطع الصلة مع الشرق والعالم الإسلامي في أكثر من مكان.

قراءة أولى تؤكد أن حزب رجب طيب أردوغان لن يتمكن لوحده من إطلاق حملات إصلاح وتغيير أساسي دستوري وسياسي واجتماعي لها علاقة مباشرة بالقضية الكردية ومسألة الحجاب وطرح النظام الرئاسي بديلا للنظام البرلماني القائم وهي المادة التي يريدها أردوغان كثيرا لتوحيد الحكم والمعارضة ضمن حزبين قويين رئيسيين على الطريقة الأميركية. ورئيس الحكومة التركية الذي اكتشف ذلك مع بداية فتح صناديق الاقتراع وفرز النتائج كان واضحا في كلمته عشية انتهاء الانتخابات من مقر حزبه الرئيسي في أنقرة بإعلانه حاجته إلى الأحزاب الأخرى لمشاركته إطلاق حملات التغيير والإصلاح في البلاد.

باب أي حزب سياسي سيقرع أردوغان أولا؟ وهل ستقبل قيادات المعارضة ما يقدمه إليها بمثل هذه البساطة وهو الذي دخل إبان الحملات الانتخابية في سجال ونقاش طويل وشديد اللهجة معها؟ رجب طيب أردوغان سيد المرحلة السياسية القادمة لأربع سنوات أخرى يعرف أن المهمة في غاية الصعوبة لأن تركيبة المجلس النيابي الجديد ستكون أكثر تشابكا وتعقيدا مع وصول صقور القيادات الكردية والقومية والأتاتوركية المتشددة ورموز عسكرية اختارتها الأحزاب السياسية لتحملها إلى البرلمان وتدعوها للدفاع عن شعاراتها وأفكارها وحساباتها السياسية.

الناخب التركي قال «نعم» قوية لأردوغان وحزبه، «نعم» لحزب واحد يقود السلطة في البلاد بدل الائتلافات الحكومية التي كلفت تركيا غاليا في السنوات السابقة لكن المقترع نفسه قال لا لتفرد العدالة والتنمية في تحديد مسار ومستقبل الكثير من المسائل الحساسة لوحده وألزمه بالانفتاح والتعاون مع بقية الأحزاب فهل سينجح في مهمته المستحيلة هذه؟

مهمة أردوغان في الخارج أيضا لن تكون بمثل هذه السهولة طالما أنه ومن خلال شكره لمواطني غزة والقدس وبيروت أعلن أنه سيستمر في سياسته الخارجية التي أطلقها قبل 8 سنوات وتشكل دول وشعوب المنطقة جزءا منها. الامتحان الأول والأصعب سنتعرف إليه بعد أيام من خلال الأزمة السورية حيث بدا عدد المدافعين عن النظام السوري يتزايد وهم يستهدفون أردوغان الذي يبالغ في تسديد النصائح وفي تدخله بشأن بلادهم الداخلي.

الحديث عن النموذج التركي وتصديره إلى دول المنطقة هذا الطرح الذي نرفضه قبل غيرنا، كون لكل دولة خصائصها ومميزاتها التي تختلف عن بقية الدول، حقق قفزة نوعية كبيرة على طريق تعزيز وتكريس الديمقراطية في البلاد من خلال إعلان نتائج الانتخابات بعد ساعتين فقط على غلق صناديق الاقتراع التي استبدلها أردوغان بصناديق بلاستيكية بدل الخشبية لتكون أكثر شفافية. 50 مليون ناخب تفرز أصواتهم وتعلن نتائج خياراتهم في هذه الفترة الزمنية القياسية في دولة شرق أوسطية هي ممر عبور ثقافي وجغرافي واقتصادي للكثير من الدول والحضارات بالمقارنة مع آخر تجربة انتخابات شهدتها المنطقة حيث كانت العملية الانتخابية تجرى على مراحل، تسحب الصناديق وتترك لأسابيع طويلة دون أن يعرف أحد مصيرها ثم تخرج الهيئة المشرفة على الانتخابات لتعلن نتائج يتفجر الخلاف والشبهات حولها.

لن يفوتنا طبعا الحديث عن المشهد الأكثر إيلاما ووجعا الذي نقلته لنا وسائل الإعلام التركية والعالمية يوم الانتخابات، حيث كان المقترع التركي في مدينة هتاي التركية الواقعة على الحدود التركية السورية يدلي بصوته على طريق ممارسة حقه الديمقراطي على مرأى ومسمع الكثير من اللاجئين السوريين الفارين من العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش السوري ضد «المتآمرين» و«الخونة» يتابعون بحسرة وألم ما يجري من خيمهم التي نصبتها هيئات المجتمع المدني التركي لاستضافتهم فيها.