التخويف بالإسلام

TT

مواقف كثيرة، في الحياة السياسية المعاصرة، تتشابه في المقصد وتختلف في المناهج والوسائل، تحمل على التقرير بوجود واقع لما يصح نعته بالتخويف بالإسلام. يفيد مقتضى القول بأن الإسلام يغدو، عند جهات كثيرة، أداة يتم التلويح بها بهدف إثارة الهلع في النفوس وإحداث البلبلة في الأفكار والعقول. يغدو الإسلام «فزاعة» أو سلاحا فتاكا، بل هما معا، يرفعان من أجل إحداث حالة من الرعب هي أقرب ما تكون إلى الرعب الذي ينشأ عن ذكر الإرهاب واحتمال الضربات المفاجئة دون أن يقدر أحد على صدها أو توقع حدوثها. يصدر هذا التخويف من جهتين اثنتين تختلفان في الأسباب وتلتقيان في الأهداف، أو قل إن إحدى الجهتين، كما سنرى، تقوم بالنسبة للثانية بعمل الخادم والقوة الضاربة، في حين أن الأخرى تحرص على الحراسة والتأييد المشروطين.

الجهة الأولى، ولا غرابة في ذلك، هي الغرب الأوروبي من جانب والغرب الأميركي من جانب آخر. الغرب الأوروبي ممثلا في دول فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا، لدواعٍ وأسباب تختلف وتتفاوت مع واقع الجاليات العربية الإسلامية وحركيتها في هذه البلاد، وتتناسب طردا مع حركات اليمين المتطرف. يظهر هذا الحال الأخير عند الجبهة الشعبية في فرنسا (وهذا موقف تقليدي، فهو عمق الاستراتيجية التي يأخذ بها هذا الحزب في المعارضة من خلال معالجته النوعية لقضايا الهجرة والمهاجرين في فرنسا). وتظهر آيديولوجيات التخويف من الإسلام على النحو الذي رأينا عليه تصريحات كل من أنجيلا ميركل في ألمانيا، وكذا تصريحات نواب في البرلمان الألماني. كما يظهر في خطب ومواقف برلسكوني في إيطاليا، وفي مواقف الأحزاب السياسية وكذا بعض منظمات المجتمع المدني في كل من بلجيكا وهولندا، في حين أن آيديولوجيا التخويف بالإسلام تتجلى على نحو مغاير في المناهج في بريطانيا. أما في الولايات المتحدة الأميركية فإن الآيديولوجيا ذاتها أقل تعقيدا وأكثر جلاء وأشد بساطة في التعبير، فهي تشبه المواقف الأميركية ذاتها. نعم، إن لآيديولوجيا التخويف من الإسلام ثم التخويف بالإسلام (بمعنى التلويح به عدوا حل محل الشيوعية المنهارة في القيام بوظيفة التربص بأميركا والسعي المتصل للإيقاع بها حضارة وتهديدها في أمنها المالي والسياسي)، إن لهذه الآيديولوجيا تاريخيا يجد بدايته في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وهذا التاريخ يصبح في العقل الأميركي واقعا معيشا بعد ذلك.

لا تكتفي هذه الجهة الأولى - بشقيها الأوروبي والأميركي، وإن كان الأخير أكثر وضوحا - بعمل التأمين والتحصين داخل بلدانها، بل إنها تسعى إلى نوع من التحصين الخارجي، عندما كان هانتنغتون يعتبره حدودا ثقافية للولايات المتحدة الأميركية. يظهر هذا العمل في سياسات الدعم والتأييد لأنظمة عربية جعلت، هي ذاتها، من التخويف من التهديد الإسلامي (التخويف بالإسلام) الخط الآيديولوجي الذي سلكته في حكمها وفي تبريرها لعمل القمع والتضييق على الحريات على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. لنقُل إذن إن هذه الأنظمة العربية (بالنسبة للعالم العربي) وأنظمة في بلاد إسلامية غير عربية في آسيا (باكستان وأفغانستان خاصة) تشكل الجهة الثانية المقصودة بحديثنا هذا. وهنالك، بطبيعة الأمر، تكامل بين عمل كل من الجهتين، مثلما أن هنالك تأييدا ومساندة من الجهة الأولى للجهة الثانية ما دام البلد (في الجهة ثانية) قادرا على الوقوف على قدميه، ناجحا في تمرير آيديولوجيا التخويف من الإسلام وقادرا على السيطرة بموجب هذه الآيديولوجيا.

أظهر تطور الأحداث في العالم العربي، منذ انتفاضة تونس حتى الآن، صدق الفكرة العامة التي نصدر عنها في حديثنا هذا. في الأنظمة السياسية العربية في كل من تونس ومصر واليمن وسوريا ظهرت آيديولوجيا التخويف من الإسلام والتخويف بالإسلام الكاسح المهدد بإحداث دول إسلامية تمسك بها «القاعدة»، بدا السيناريو في مختلف البلدان المذكورة متشابها أشد ما يكون التشابه، وظهر الشأن ذاته في مواقف «الجهة الأولى» (أميركا وبعض من دول أوروبا الغربية) من الأنظمة السياسية في الدول المذكورة من «الجهة الثانية» لينتهي بنفض اليد من الرؤساء في هذه الأنظمة. ثم إن الشهور الستة الأخيرة (منذ الثورة الشبابية في تونس في منتصف يناير «كانون الثاني» حتى اليوم) أبانت عن أمر آخر ربما كان أكثر أهمية، هو فساد أطروحة التخويف بوجهيها (التخويف بالإسلام بإشهاره سلاحا، والتخويف من الإسلام باعتباره إقامة لدولة الطالبان أو للدولة الدينية في أشد مظاهرها بؤسا وظلاما). واقع الحال، في الساحة العربية، أزال القناع عن أطروحة تقرن الإسلام بالخوف، على أي نحو كان الإقران بينهما. مثلما أن واقع الحال أبان عن حقيقة أخرى أكثر عمقا وحملا على المراجعة وإعادة ترتيب الأفكار والأوراق معا: الحقيقة أن الإسلام على الحقيقة (الإسلام الذي هو نقيض الغلو والإقصاء والتكفير الرخيص الثمن، وكذا دعوة الإغراق المفرط في الروحانيات السالبة على النحو الذي تمثله الطرقية بتجلياتها المختلفة) متمكن من نفوس المسلمين وعقولهم. لعلي أكتفي بالتنبيه إلى الرمزية التي يكتسيها يوم الجمعة ذاته، يوم الخطبة والصلاة الجامعة ثم الانفضاض قصد العمل والإنتاج. ولعلي أذكر بما سبق لي الحديث عنه في هذا المنبر من الكشف العظيم الذي أظهره ميدان التحرير (الرمزية هنا حاضرة مرة أخرى)، وهو الغياب التام والمطلق لكل الشعارات التي ظل أتباع ثنائية فسطاط الكفر/فسطاط الإيمان يلوحون بها زمنا غير قصير. الحقيقة الكبرى أن هنالك في الوجود العربي المعاصر، وفي ما يؤشر الحاضر على إمكانه في المستقبل القريب، حضورا للإسلام وغيابا للغلو والتطرف والدعوة إلى الإرهاب باسم الإسلام.

لا يمكن التخويف بالإسلام حيث يكون الإسلام، كما تدركه الشعوب العربية الإسلامية، بحدسها السليم وبمخزونها النفسي وعمادها الثقافي المشترك طردا للخوف وإزاحة له، حيث يكون إلغاء تاما له وحيث يكون الوعي بالقيم الإنسانية العليا طريقه الوعي بالإسلام على الحقيقة.