تركيا الشرق أوسطية

TT

في عصر ما سمي بـ«الربيع العربي»، قد يكون الفوز الكاسح الذي حققه حزب العدالة والتنمية التركي رسالة شرق أوسطية مزدوجة؛ أولا: للحكام العرب، فحواها أن الديمقراطية الحقيقية أسلم الطرق للاحتفاظ بالحكم - انطلاقا من منجزات هذا الحكم بالطبع - وثانيا: للشعوب العربية، مفادها أن النظام السياسي الديمقراطي لا يتعارض مع رسالة الإسلام - بمفهومها الآيديولوجي المنزه عن التطرف.

إذا كانت نتائج الانتخابات التركية تعكس، داخليا، نجاح حزب رجب طيب أردوغان، في «أقلمة» المجتمع الإسلامي في تركيا مع سياسة تحديثها طبقا للقيم والمعايير الديمقراطية، فإنها تؤكد، بالقدر نفسه، تنامي توجه تركيا الشرق أوسطي، الأمر الذي ظهر جليا في اعتبار أردوغان انتصار حزبه انتصارا لبيروت ودمشق ورام الله...

قد تكون عودة تركيا إلى ساحتها الشرق أوسطية إحدى نتائج الإحباطات المتتالية التي واجهتها - ولا تزال - محاولاتها المتكررة الانتماء إلى عضوية الاتحاد الأوروبي الكاملة، إلا أنها تعكس، أيضا، رغبة أنقرة في استعادة بعض من موقعها التاريخي السابق كقوة إقليمية مؤثرة في المنطقة.

بعد أن بلغت «تركيا الفتاة» سن الرشد وثبتت هويتها الديمقراطية – الإسلامية بحيث أصبحت مقبولة عربيا، ومرضيا عنها غربيا، تبدو استعادة هذا الموقع - الذي كان أول ضحايا «حمى» اندفاع أتاتورك، بعد الحرب العالمية الأولى، للتشبه بالغرب على حساب واقع بلاده الجغرافي والتاريخي والتراثي وحتى الاقتصادي - أسهل منالا اليوم من ذي قبل.

وقد تكون الظروف السائدة على الساحة العربية، حاليا، أنسب الظروف المتاحة لدور تركي محوري في المنطقة: مصر منشغلة بمرحلتها الانتقالية، والعراق غائب تماما عن الخريطة العربية، وتونس لا تزال في حالة مخاض سياسي، وسوريا تواجه أدق مراحل وجودها، ولبنان معلق في حبال هوائي الداخل والخارج، والجامعة العربية في إجازة «ربيع عربي» قد يطول إلى فصلي الخريف والشتاء المقبلين ولولا مجلس التعاون الخليجي لما كان ثمة تحرك عربي مشترك جدير بالذكر في الوقت الحاضر.

وغير خاف أن العامل الآخر المشجع لدور تركي فاعل في المنطقة وفره أردوغان شخصيا بتقديمه، إبان أزمة الباخرة «مرمرة»، أوراق اعتماد جديدة للدبلوماسية التركية حيال القضية الفلسطينية عبر إعادته بعض التوازن إلى علاقة أنقرة بإسرائيل - دون أن يعني ذلك «تبني» القضية الفلسطينية التي لا تزال تحكم مواقفه منها ارتباطات أنقرة الأطلسية.

مع ذلك، لا تخلو عودة تركيا إلى لعب دور فاعل على الساحة العربية من تحديات إقليمية ودولية قد تكون حكومة الرئيس أردوغان مرشحة لمواجهتها في عهد البرلمان الجديد.

أول هذه التحديات «الربيع العربي» الذي يفرض على سياسة أنقرة الشرق أوسطية التزام خيار واضح وصريح بين دعم الأنظمة أو تأييد الشعوب، وهو خيار لا تزال حكومة أردوغان تتجنبه بلباقة دبلوماسية ملحوظة، بدليل تعاملها الازدواجي المقاربة مع «ليبيا الثورة» و«ليبيا القذافي»، من جهة، وسوريا «جسر الشغور» و«سوريا الأسد»، من جهة أخرى.

قد تستطيع تركيا تجاهل هذا الخيار إلى حين، وتحديدا إلى أن تتفتح زهور «الربيع العربي» الموعود... أو تذبل مع خريفه وشتائه، إلا أن استحقاق هذا الخيار آت، آجلا أم عاجلا، خصوصا إذا كان الدور التركي الجديد في الشرق الأوسط يطمح إلى شكل من أشكال الدعم الأميركي له انطلاقا من فرضية ترحيب واشنطن بتعزيز نفوذ بديل للنفوذ الإيراني في المنطقة. ولكن هذه الفرضية تظل سيفا بحدين إذا حولت الدور التركي إلى رهينة الرابط الأطلسي الأميركي، من جهة، ودبلوماسية واشنطن المنحازة لإسرائيل.