لبنان في بطن التأزم السوري

TT

ما كاد رجب طيب أردوغان في غمرة فرحته بالنصر الانتخابي الكبير، يبشر دمشق وبيروت والقدس وغزة بالحرية، وينذر الرئيس السوري - حليفه السابق - بالويل والثبور وعظائم الأمور بسبب قتله لشعبه، حتى رد عليه الحليف العزيز على طريقته بضربتين وليست ضربة واحدة: تخريب بلدة جسر الشغور والإمعان في الفتك بسكانها بحيث اضطر الباقون على قيد الحياة إلى الهرب إلى تركيا، والضربة الأخرى: تشكيل حكومة ذات لون واحد في لبنان، بلغ من فرحة الرئيس الأسد بها أن هنأ رئيس جمهورية لبنان عليها، بعد الإعلان عنها بدقائق. وقد دفع هذا التأليف السريع والمفاجئ أحد كتاب جريدة «السفير»، عباس بيضون، إلى القول كتابة: يبدو أن الرئيس الأسد أقوى في لبنان منه في سوريا! وهذا في الوقت الذي كانت فيه اللجنة التي شكلها الأسد لوضع قانون جديد للأحزاب والحياة الحزبية، تعلن أن الشعب السوري غير مهيأ بعد للتعددية الحزبية، ولا يملك الثقافة السياسية الضرورية، بينما تعلن المصادر الأمنية أن الدور بعد جسر الشغور على معرة النعمان والبوكمال اللتين تتجه إليهما قوى النظام لتطهيرهما من المسلحين والإرهابيين!

إن مجمل التشكيلة الوزارية الجديدة في لبنان يشير إلى أن وزراء الجنرال عون يسيطرون على الحقائب الاقتصادية والأمنية، وسليمان فرنجية، حليف آل الأسد، على حقيبة الدفاع، بينما استأثر حزب الله بالسياسة الخارجية وحقائب الخدمات بالاشتراك مع حليفه الرئيس بري. ويعني ذلك أن الرئيس الأسد قرر من دون رجعة المواجهة بالداخل السوري من طريق الحسم العسكري، وفي لبنان بالحسم السياسي. وقد دفع ذلك النائب نهاد المشنوق إلى إطلاق لقب جديد ومعبر على الحكومة الجديدة حين سماها: حكومة جسر الشغور! وهكذا ولأول مرة في العقد الأخير يسيطر السوريون وحزب الله وحلفاؤهم على قوى الشرعية اللبنانية، إضافة إلى قواهم غير الشرعية! وحكومة المواجهة هذه، والتي استغرق تأليفها قرابة الخمسة أشهر، هي حكومة انتقامية بالفعل، وهذا ما قاله وليد جنبلاط حين افتخر بالقدرة على الفعل، بخلاف قوى الرابع عشر من آذار، وكأن المسألة مسألة صراع على الغنائم مع النظام السوري الذي لا تبيح التحالف معه الأخلاق أو السياسة.

ومع كل هذه المشكلات التي تضع البلاد على شفير الانقسام والفشل، ليست هذه الأمور هي أبرز ما توشك أن تنجزه (!) بل المشكلة الأهم أنها أدخلت الوطن والمواطنين في بطن التأزم السوري. فقد اعتاد السوريون قبل خروجهم العسكري من لبنان عام 2005، أن يتخذوا من لبنان مسرحا لتجاذباتهم مع المجتمعين العربي والدولي. ففي مقابل الاضطراب الذي يتعمدون نشره أحيانا بالبلد المجاور الذي يسيطرون على مقدراته، كانوا يتقاضون أثمانا باهظة من العرب والدوليين، للتوقف عن تهديد الاستقرار بالداخل وعلى حدود إسرائيل. وفي عهد الرئيس بشار الأسد - أكثر مما كان عليه الأمر أيام والده - توثقت الشراكة بين النظام السوري والحليف الإيراني (من خلال حزب الله)، بحيث وقعت على عاتق الوطن الصغير أعباء خدمة مصالح الطرفين بالمنطقة، وفي سائر الملفات. والجديد في الأمر في الشهور الأخيرة أن أوار حركات التغيير في العالم العربي، وصل إلى الداخل السوري. كما أن مناطق النفوذ الإيرانية في العالم العربي استشرى فيها التأزم بسبب نزول الجمهور إلى الشارع، وبسبب الانقسام بداخل الجمهورية الإسلامية ذاتها: بين المحافظين أنفسهم، وبين المحافظين والإصلاحيين. وهكذا التقت المصالح التي لم تفترق من جديد وبقوة أعظم وأفظع. فالنظام السوري يدافع عن وجوده، وليس عن الفوائد والثمرات. والنظام الإيراني يريد أن يري الأميركيين العين الحمراء، لتزايد الحصار عليه. والسوري ما عاد يجد منفذا إلا بلبنان، أما الإيراني فلا يستطيع ذلك إلا بالعراق ولبنان. إنما هناك فرق بين الزمن الحاضر، والزمن المنقضي. فقد كان الطرفان مرتاحين ويبحثان عن الغنائم، أما الآن فيعتقدان أنه إذا لزم الأمر فعلي وعلى أعدائي. ذلك أن التأزم اللبناني لا يخفف من وقع خروج الشعب السوري على سلطته مطالبا بالحرية والكرامة. كما أن تهديد إيران لإسرائيل بصواريخ حزب الله، لن يدفع الولايات المتحدة، إلى إجراء صفقة معها. ومن جهة أخرى؛ فإن السيطرة على الداخل اللبناني، لن تعيد العرب إلى سوريا، ولن تخفف من حصار المجتمع الدولي للنظام السوري الذي يقتل شعبه. فقد انتظر السوريون خمسة أشهر قبل أن يقرروا مع حزب الله وإيران تشكيل حكومة اللون الواحد هذه. وخلال تلك الأسابيع الطويلة، ما تقدم عربي ولا دولي بعرض على النظام السوري للتداول بشأنه. وما لم يحصل قبل ميدان التحرير، ومذابح درعا وبانياس ودوما وجسر الشغور وحمص وحماه وغيرها، لن يحصل بعد تلك الأحداث المفجعة. ولذا فقد أخطأ الرئيس السوري مرتين: مرة حين لم يلح على تشكيل حكومته هذه قبل الثورة السورية، ومرة حين شكلها بعد الثورة في سوريا، وقد بدأ الأصدقاء والحلفاء يهجرونه بسبب الثورة بالذات، والمذابح التي ووجهت بها.

اعتقد الرئيس الأسد إذن أنه بتشكيل حكومته اللبنانية، يثبت لشعبه أنه لا يزال قادرا على الفعل في الأمن والسياسة، كما أراد الانتقام للإعراض الذي بدأ يلقاه من العرب والأتراك. إنما كان عليه أن يعلم أن الحل الأمني بالداخل السوري لن يجذب العرب والدوليين إليه. كما كان عليه أن يعلم أن «الحسم السياسي» بالداخل اللبناني لن يخفف عنه، كما لن يدفع أحدا لمعاودة الاتصال به. أما الإيرانيون الذين يساعدون الأسد ضد شعبه؛ فإنهم بتلك الحركة، كما بهذه الحركة، كشفوا أنفسهم، ودفعوا أصدقاءهم الأتراك والعراقيين وأهل الإسلام السياسي للتوجس منهم!

عندما بدأت الثورة السورية، ظهرت بوادر تضامن شعبي معها؛ وبخاصة لدى المسلمين في شمال لبنان. عند كل حركة، كان أنصار النظام السوري، يواجهونها بحركة مضادة لتأييد الأسد ونظامه. لكن الشهور الماضية، من دون حكومة، أبقت لبنان هادئا بشكل عام، رغم الآثار السلبية على اقتصاده. وبذلك ما تحقق ما هول به أنصار النظام بلبنان: أن الاضطراب بسوريا، يمكن أن يدمر لبنان! إنما بعد تشكيل السوريين وحزب الله لحكومة ميقاتي هذه؛ فإن لبنان يكون قد وضع في بطن التأزم السوري، وصار ممكنا بالفعل إذا ازدادت الأمور سوءا هناك، أن تنعكس اضطرابا بالداخل اللبناني، وهذا فضلا عن الاستخدامات للبنان، والتي سيلجأ إليها النظام السوري حكما، في المال والاقتصاد، وفي حركة الأشخاص والسلع. ولبنان عضو غير دائم بمجلس الأمن، والقضية السورية معروضة على المجلس وسيكون لبنان مشلولا إزاءها. ثم هناك القرار الاتهامي في قضية استشهاد الرئيس الحريري، وكيف ستتجاوب حكومة الحزب وسوريا معه. وهناك القوات الدولية في الجنوب، والتي لن تسر دولها الأوروبية بسيطرة الحزب وسوريا على سياسات البلاد العسكرية والأمنية. وهناك إمكانيات التلاعب بأمن لبنان من الجنوب كلما تعاظمت أزمة النظام السوري أو إيران.

وإذا كانت الأمور على هذا النحو من التعقيد والتشابك، فلماذا أصر رجل المال والأعمال نجيب ميقاتي على الدخول إلى بطن الحوت، في هذا الوقت الخطير بالذات؟ هناك من يقول: الطموح وحب السلطة. لكنه لا يملك من الأمر شيئا، فعون وحزب الله أقوى منه بالداخل في الحكومة وخارجها. وهو إضافة إلى هذا الضعف المشهود، تابع للرئيس الأسد، الشديد التأزم شخصا ونظاما الآن. فالتبعية الميقاتية متراكمة ومتراكبة، ولا شعبية للرجل بالتأكيد في صفوف المسلمين اللبنانيين. فهل تكون الساعة ساعة تخل، كما يقول المتدينون عن المنتحر لغير سبب قاهر أو ظاهر؟!