زمن القانونيين

TT

في سياق تبعات ما يحدث في العالم العربي يحاول المهتمون في البلاد التي حصلت فيها الثورات (أو التي يخشى من وقوعها فيها) خلق حراك وجدال لافت لبحث صياغة ميثاق ودساتير تحمي وتحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي الجزء الأهم من حالة الحوكمة الرشيدة التي لم يكتب لها النجاح في الحكومات العربية. فدراسات واستطلاعات الرأي كانت دوما تظهر هشاشة العلاقة وضعف الثقة بين الحكومات العربية وشعوبها نظرا لاعتقاد الشعوب بأن الكفة دائما ترجح سلطة الحكومة على مكانة المواطن وحقوقه «الغامضة». وإذا كان وضع العلاقة وتأسيسها بين الحكومات والمواطنين كان مصيره مربوطا بين الساسة والاقتصاديين ورجال الدين، ولكل كان مبتغاه، فاليوم يبدو مهما أن يكون لرجال القانون دور مهم على صعيد التشريع السياسي بعد أن فشل الثلاثة الآخرون قبلهم.

فالسياسي كان دوما مهتما بالمصالح والمكاسب وتكريس ذلك على حساب الخسارة السياسية التي سيتكبدها إذا منح للشعب «تنازلات» من رصيده السياسي، أما الاقتصادي فحسبته ضيقة ومبنية على نظرة مالية بحتة وفيها إغفال للجوانب الحقوقية لتبدو العلاقة في النهاية وكأنها ربح وخسارة، وبالتالي فريق يستفيد وآخر يندب حظه، وهذا طبعا لا يحقق المرجو منه.

أما رجال الدين، فصولاتهم كانت لتثبت كلمتهم وتفسيرهم للنص المقدس حتى ولو انتصروا للعادات والتقاليد والأعراف على روح المقصد والمعنى ومقصد المشرع نفسه. ولكن تبقى تلك الأولويات المعكوسة هي التي تصنع الكهنوت الديني وتخلق الفجوة بين الناس وبين التفسير الديني فيتولد التطرف والإرهاب على طبق من ذهب، وعليه يبدو منطقيا جدا الاحتكام الآن لرجال القانون والأنظمة الذين لديهم القدرة على القراءة الواسعة للصالح العام وتحويل كل هذه الأصوات والضوضاء العالية المطالبة بالحق والحقوق إلى تشريعات جديرة مستمدة من القرآن ومن السنة النبوية الشريفة التي لا تتعارض مع أنظمة دولية ومواثيق عالمية وسياسات إنسانية متفق عليها، بدلا من التضييق والامتناع بحجج لا تقبل ولا تستساغ تضعف بالتالي الحجة الدينية وتعرض الموقف السياسي المتبنّى بناء على ذلك للنقد والتجريح بسبب خروج هذه الحجة عن العقل والمنطق والمقبول.

أتذكر حديثا جميلا وممتعا جمعني برجل القانون الفذ الدكتور أحمد كمال أبو المجد في أحد الفنادق بمدينة دافوس السويسرية على طاولة الإفطار، وقبل أن يلقي محاضرة له هناك. وكان الحديث يدور عن أهمية القانون في الدول وصناعة السياسة فيها، فأفادني بقوله إن أي تشريع أو سياسة لا تستند إلى ميثاق وقوانين هي آنية وهشة، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها. وفي نفس السياق أتذكر مقولة للقانوني العتيد ابن حلب المعروف عبد السلام الترمانيني الذي كان دوما يؤكد أن التشريع الإسلامي سابق للمواثيق والقوانين الدولية، ولكن العلة في من يحاولون تضييق تفاسير النصوص ولي معانيها لتناسب أهواءهم ومصالحهم وظروفهم الخاصة جدا.

أعتقد جازما أن الحقبة الحالية في العالم العربي هي حقبة القانوني المطالب بصياغة أنظمة وقوانين وتشريعات شاملة وكاملة تعكس واقعا حقوقيا جديدا بدلا من المواد الهشة الضعيفة التي كان من الممكن الاستقواء عليها، وبالتالي سلب حقوق الناس وإيجاد حالات الإحساس بالظلم والإبعاد، مع العلم التام بأن أهمية القوانين تبقى بضرورة التطبيق وفعاليته بأن يكون سريعا وعادلا وحازما، ولكن من المؤكد أن قوة القانون ستمكن المطبق له من ألا يهرب من ذلك. إنه وقت القانونيين الذي طال انتظاره.

[email protected]