الطيبة والمودة أعظم مصادر القوة

TT

رغم قدم الواقعة، غير أنني تذكرتها هذه الأيام، قبل أيام من مغادرة شاه إيران، قال في خطاب شهير متحدثا إلى الجماهير في الشارع: وصلتني رسالتكم الثورية.. ثم مضى يزف إليهم أخبارا جميلة عما سيفعله من أجلهم، غير أن أحدا لم يستجب لحرف واحد مما قال، وتمضي السنون ويقف بن علي في تونس ليقول نفس الخطاب تقريبا، وبعده مبارك، ونفس الخطاب في تكرار لا يعرف اليأس من الرئيس علي عبد الله صالح، والرئيس بشار، وخطابات شبيهة من الرئيس القذافي، تعقبها جميعا نفس النتيجة وكأن آلة السمع قد تعطلت عند شعوبهم. الواقع أنهم استمعوا جيدا غير أنهم لم يصدقوا حرفا واحدا مما استمعوا إليه ليس لأن أجهزة الاتصال والتواصل بداخلهم معطلة، بل لأن أجهزة البث عند هؤلاء الزعماء لم تكن تعمل على نحو صحيح، هم يبثون كلماتهم من خلال جهاز الصوت وهو الحنجرة والفم بعد مرورها على الوعي طبعا في رؤوسهم، غير أنها ليست صادرة من القلب، أو ربما لا تكون قلوبهم موجودة إلا بالمعنى الطبي، أي إنها مجرد مضخات تضخ الدماء في أجسامهم فقط، قلوب تخلو من الطيبة والمودة والحب وهي العناصر التي لا بد منها في أصول الحكم.

كل من يبيع سلعة في الحياة بما في ذلك رجال السياسة، يلجأون لعملية شهيرة في كل عمليات البيع والشراء هي «الاستهواء» وبقدر نجاح هذه العملية تحدث الاستجابة من الشخص أو الأشخاص المستهدفين، مشكلة الزعيم الثوري أنه يبالغ في عملية الاستهواء إلى الدرجة التي تحدث أثرا عكسيا في زبائنه. لنأخذ مثلا واحدا هو صورة الزعيم القذافي وهو يلعب الشطرنج، عملية الاستهواء هنا الهدف منها هو أن تقتنع الناس أنه حاد الذكاء عميق التفكير، لعل أقدم صورة عرفتها المنطقة لزعيم يلعب الشطرنج كانت صورة فوتوغرافية شهيرة لجمال عبد الناصر وهو يرتدي قميصا بسيطا مفتوح الصدر، لم تظهر الصورة الشخص الآخر الذي يلعب مع عبد الناصر، كان المقصود فقط تصدير فكرة أن لعبته المفضلة هي الشطرنج الذي يتطلب الذكاء والحيطة وهدوء الأعصاب، هذه هي بالضبط حدود الاستهواء. غير أن الزعيم القذافي بالغ في الاستهواء إلى الدرجة التي أعطت نتيجة عكسية تماما للهدف المنشود، هو لم يكتف فقط بلعبة الشطرنج بل حرص على أن يكون منافسه هو رئيس اتحاد الشطرنج العالمي.. محتوى الرسالة كان.. حتى عندما ألعب، فمن المستحيل أن ألعب إلا مع أعظم المنافسين على الأرض.. هاتوا لي أتخن واحد في الشطرنج على الأرض.

هذا النوع من المبالغة في عملية الاستهواء يحدث أثرا عكسيا على طول الخط، وهو يحدث فقط في حالة اليأس والإجهاد العصبي الشديد، أي عندما تتعطل قدرات العقل النقدية.

ما نعرفه عن الوعي البشري، بل عن الوعي في المملكة الحيوانية بشكل عام، قليل للغاية. إنني أتصور وأكاد أكون على يقين من أن هناك مصادر للمعرفة داخل أجسام البشر غير الحواس المعروفة، ليست بالتحديد ما يسمونه الحاسة السادسة، هناك مراكز داخل الوعي قادرة على ترجمة كل ما تراه وتسمعه، وهي تقوم طول الوقت - وربما في أثناء فترة النوم أيضا - بترجمة كل ما يصلها من رسائل ثم ترسله مباشرة إلى الوعي. هكذا تعرف الناس أنها محكومة بنظام نبيل أو بنظام وضيع، إذا كان نبيلا يعني عادلا فهي تعيش لحظات حياتها محاولة الاستفادة من ذلك بأقصى قدر، وإذا كان وضيعا فهي تستسلم مقنعة نفسها بأن تتحمل من أجل تسيير حياتهم الخاصة، وفجأة يثورون بعد أن يكتشفوا أنهم فقدوا قدرتهم على الاحتمال، وهنا يخرج عليهم الرئيس بالوعود والحرية والمن والسلوى فلا يستمعون وتنكمش كلمات اللغة بداخلهم فلا يتبقى منها إلا كلمة واحدة هي: ارحل.

الواقع أننا نعرف أقل القليل عن العلاقة بين الفرد القائد والجماعة، هناك أشياء في تلك العلاقة أشك في أن لها صلة بالوعي عند الإنسان أو في المملكة الحيوانية عموما، في حالة الخيول البرية مثلا، ما الذي يميز ذلك الحصان الذي يقود القطيع؟ ما الذي يميز ذلك الطائر الذي يطير في مقدمة السرب وخلفه يطير كل أفراد السرب في طمأنينة وأنساق جميلة متناسقة. هل اختارت الخيل البرية ذلك الحصان في استفتاء؟ متى وكيف وأين قالت له: نعم.. تقدم أنت صفوفنا.. احنا اخترناك وحانجري وراك.. يا حصان يا كبير القلب.

من المستحيل أن يكون ذلك الحصان وهذا الطائر وكل قادة القطعان في المملكة الحيوانية، مسلحين بالسجون والمعتقلات ورجال الأمن الشرسين. أو أن لديهم طرقا لا نعرفها يخدعون بها الآخرين. إنني أنظر للوعي داخل الإنسان الفرد ووعي الجماعة بوصفهما نفس الشيء، وأتعامل معهما على نفس الأساس، وأرى أن هناك لحظة في حياة الشعوب تقرر فيها أن «تقطع عيشها» مع الشخص الذي يتصور أنه زعيم له. هذه هي اللحظة التي لا تصلح معها المبادرات والحوارات والحلول السياسية والدبلوماسية، إنها لحظة «قطع العيش» والعياذ بالله. يستطيع المحللون السياسيون وأساتذة الاجتماع وأساتذة علم النفس السياسي أن يكتبوا آلاف الصفحات على مدى عشرات الأعوام عن سقوط نظام غير أنني أفضل الاحتكام لهذا المصطلح الشعبي الشهير. غير أنني مع اعترافي بأننا نعرف أقل القليل عن طبيعة العلاقة بين الفرد الحاكم والجماعة المحكومة، إلا أنه من الممكن القول بأنه بالإضافة لكل ما تعلمناه في السياسة، فأهم ما يحدد علاقة الحاكم بالمحكوم هي عاطفة جميلة اسمها اعتبار الذات (Self regard) إنها احترام النفس عند الحاكم التي سينتج عنها بالحتم احترام الشعب، في غياب هذه العاطفة سيعجز خداع العالم كله عن دفع الشعب لاحترام رئيسه، كل سدود العالم لن تفلح في سد فمه عن قول كلمة: ارحل..

لست أتكلم عن التهذيب الذي يعرفه ويمارسه كل من يعمل بالسياسة على سبيل التمثيل، بل عن تهذيب نابع من مصدر بعيد داخل الوعي البشري، إنه حب الحياة واحترامها وقد تحول إلى سلوك واقعي على الأرض. سلوك سيتحول إلى قواعد صارمة تبعد اللصوص والبلهاء عن دائرة الحكم، وتهذيب يبحث عن المهذبين ومعرفة تبحث عن العارفين ومودة تبحث عن المحبين.

في جملة شهيرة يعرفها المسرحيون جيدا يقول هاملت: إنني أقسو لكي أكون أكثر رحمة.

هذا هو رجل الدولة: هو يقسو أحيانا على من يستحقون القسوة، وذلك بصرامته في تطبيق القانون، هكذا يضمن لشعبه حياة مليئة بالعطف والود لا يهددها البلطجية والشبيحة.