التعايش مع الفوضى

TT

يمكننا أن نوجه أي نوع من النقد لأنظمة منطقتنا، ويكون هذا النقد صحيحا، إلا أنه ليس بإمكاننا إنكار أنها تتمتع بموهبة التعايش مع عدم الاستقرار واستثمار الفوضى. فلسطين ولبنان والعراق نماذج جيدة لذلك، فأحد عناصر استمرارية الكثير من أنظمة المنطقة لفترة طويلة هو قدرتها على استثمار الفوضى وعدم الاستقرار في هذه البؤر المتوترة، أولا: من أجل مراكمة أوراق إضافية في اللعبة الدولية تضمن لها شرعية خارجية تعوض عن نقص شرعيتها الداخلية، وثانيا: لضمان أن يكون عدم الاستقرار في هذه البؤر سببا يبرر القمع الداخلي وغياب الإصلاح والديمقراطية بحجة أنها تفتح الطريق لحالة من عدم الاستقرار. اللافت أن الأمر بدا فعلا كذلك؛ حيث الديمقراطية والانتخابات لا تحصل إلا في الدول الهشة التي تعيش حالة عدم استقرار، وغالبا ما تكون مترافقة مع العنف. الانتخابات التي تحصل في هذه البلدان غير المستقرة تتمتع بقدر عالٍ من المصداقية والأهمية وتخضع لمشاركة أو إشراف منظمات دولية، لكنها بذاتها تصبح إحدى أهم أوراق الدول غير الديمقراطية في توسيع نفوذها إلى هذه البلدان، وكان يبدو أن مغادرة حالة عدم الاستقرار تقترن بإمكانية ظهور زعامة قوية تسيطر على الأوضاع أكثر من اقترانها بإمكانية تحول الديمقراطية الناشئة إلى حالة راسخة تبني نظاما قويا وبالوقت نفسه تحفظ الاستقرار.

الأمر في منطقتنا أننا ما زلنا ننخدع بالمسميات، ونفترض أن الدول القائمة والتي لديها حكومات وإعلام وعضويات في المنظمات الدولية هي دول بالمعنى نفسه الموجود في مناطق أخرى من العالم. وفي الحقيقة أن مشروع الدولة في منطقتنا لم يكتمل بعد، وأن ما نشهده اليوم من انتفاضات واحتجاجات يرتبط أساسا بالفشل الذي أصاب هذا المشروع، فشل يعكسه هذا الصعود المخيف للهويات الفرعية في داخل كيان الدولة، أو الهويات العابرة لهذا الكيان. إنه فشل في الوصول بمشروع الدولة القومية إلى حالة من خلق هوية قومية تتطابق مع حدود الدولة، وبالتالي تضفي على وجودها شرعية كافية، بحيث يغدو بإمكان الفرد أن يشعر أن هذه الهوية حقيقية وراسخة ومتجاوزة لكل هوياته الأخرى. نرى أن هذا الفشل كان أكبر في البلدان التي تبنت أنظمة الحكم فيها آيديولوجيات قومية عربية (العراق وسوريا، وإلى حدٍّ ما ليبيا)؛ لأن الأحزاب الحاكمة فيها لم تكن أصلا تعترف بشرعية الكيانات القائمة التي سمتها الكيانات القطرية، لكنها كانت، في الوقت نفسه، تحكمها بشكل عملي، مما خلق ازدواجية حادة انعكست على الواقع بطريقتين، الأولى: أن مشروع بناء الدولة انفصل عن مشروع بناء الأمة، وبالتالي فقد المعادل الوجداني واللاصق الأخلاقي الضروري لتحويله إلى مشروع حقيقي ومنتج. والثانية: أن النخب الحاكمة انفصلت عن القواعد الشعبية بشكل كرس حالة من الغربة جعلت غالبية السكان ينظرون إلى الحاكم وكأنه غريب عنهم ولا ينتمي إليهم، بل إن وجوده يشبه شكلا من الاستعمار الداخلي، بحيث إننا نسمع أوصافا لافتة من الجماهير لحكامها خلال الاحتجاجات لعل أبرزها وصف الحاكم بـ«الكافر»، وهي صفة معادلة في الوعي الإسلامي الشعبي لصفة الأجنبي أو الغريب، وعلى الرغم من أنها توصيف خاطئ بالمعنى الفعلي وبما ينطوي عليه من رمزية سياسية أو ثقافية، لا سيما حينما ينظر إليه وكأنه انعكاس لثقافة الغالبية المحتجة، فإن من يلام عليه قبل أي أحد آخر هم الحاكمون الذين في سعيهم لصناعة صورة الزعيم الخالد المتعالي الأسطوري الذي يشبه وجوده بعض ملامح الميثولوجيا القديمة (نصف إنسان ونصف إله) حولوا أنفسهم إلى غرباء منقطعي الصلة عن مجتمعاتهم.

من هنا أقول: إن الجديد هو أن على منطقتنا أن تتعايش مع بؤر توتر إضافية، وربما مع مرحلة طويلة من عدم الاستقرار. إنها تكلفة زمن طويل من الجمود والقمع وغياب الأفق، فما يحصل اليوم ليس عاصفة عابرة بقدر ما يشبه تحرك الصفائح التكتونية الذي ينتج زلزالا قد تتفاوت درجته وقوته من بلد لآخر بحسب مستوى الحصانة التي اكتسبتها الهوية الوطنية وبحسب مستوى النجاح الذي حققه مشروع الدولة الوطنية. ففي تونس ومصر يبدو أن الهوية الوطنية ليست في محل تساؤل وشك، الشعور بأن الجميع هم تونسيون ومصريون (بما في ذلك الديكتاتور نفسه) وغياب اللغة الغريزية في توصيف الديكتاتور ومجموعته بأوصاف تتجاوز طبيعتهم كمستبدين وفاسدين، يعني أن هنالك إمكانية لأن ينتج التغيير أنظمة جديدة أكثر تقدمية وديمقراطية وتمثيلا للشعب، وحتى القوى والأحزاب السياسية ذات النهج الإسلامي مثل حزب النهضة وجماعة الإخوان المسلمين اضطرت إلى إعادة تشكيل أبجدياتها السياسية بما يلائم حقيقة أن الهوية الوطنية بالنسبة للغالبية هي الأكثر أهمية من أي هوية، وأن ما يمكن أن تعمله هذه القوى الإسلامية هو إعادة ابتكار نموذج للهوية الوطنية لا يتنكر لدين الغالبية السكانية، وهي عملية ستضفي شرعية أكبر على الكيانات القائمة، لكنها محملة بمخاطر أخرى من قبيل الموقف من المجموعات الدينية والطائفية المغايرة.

بأي حال.. إن الوضعين التونسي والمصري يحملان عناصر جيدة للانتقال إلى حال أفضل لكن عملية الانتقال نفسها هي دائما أخطر المراحل؛ لأنها تشهد صراعا محتدما بين القوى السياسية والاجتماعية لحجز مواقعها في المشهد السياسي، ولأن الدولة أو من يمثلها يواجهون تحدي تحقيق ما يكفي من الإجماع لأي خطوة رئيسية باتجاه الانتقال. لكن حصول التحول دون تدمير بنية الدولة القائمة يبدو الضمان الحقيقي لكي لا تظهر حالة مستديمة من عدم الاستقرار، بمعنى أنه حيثما يجري التغيير دون التضحية بكيان الدولة ومؤسساتها، فإن هناك فرصة أكبر ليكون تغييرا سلميا قليل التكلفة (الحالتان التونسية والمصرية)، وحيثما يكون التحول بتدمير كيان الدولة لأنه فاقد للشرعية بذاته سيكون هنالك احتمال أكبر لظهور حالة من الفوضى وعدم الاستقرار والعنف، وبروز ميليشيات وجماعات مسلحة، وتصاعد لدور الهويات الفرعية في المشهد السياسي (الحالات الليبية واليمنية والسورية).

إننا إذن أمام مرحلة من عدم الاستقرار والهشاشة قد تطول زمنا؛ لأن الاحتجاج والحراك الشعبي باتا يطالان الكيانات التي فشلت في التقدم بمشروع الدولة وفي تحقيق تطابق بين الهوية الوطنية والكيان السياسي القائم. وبالتالي فإن ذلك يفتح الطريق أمام انفلات صراعات قد تكون محصلتها تدمير أو تفتيت هذا الكيان أو إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية في المنطقة. إنه تحول من النوع الذي قد لا يرغب كثيرون في التعايش معه، لكنهم سيكونون مضطرين لذلك؛ لأنه تحول مرتبط بمنطق التاريخ الغالب لأي منطق آخر.