لبنان: حكومة لا تحكم.. وقيادات لا تتعلم

TT

«الخطأ الحقيقي الوحيد هو ذلك الذي لا تتعلم منه شيئا»

(جون باول)

كان مؤلما حقا منظر رئيس الوزراء اللبناني الجديد نجيب ميقاتي، يحيط به وزراؤه الأربعة المنتمون، مثله، إلى مدينة طرابلس، ثانية كبريات مدن لبنان وعاصمة شماله، وهو يتكلم بمزيج من الارتباك والحنق والقلق على خلفية تجدد العنف بين منطقتي باب التبانة، ذات الغالبية السنية، وبعل محسن، ذات الغالبية العلوية، في شرق المدينة.

ميقاتي، الذكي والحصيف، عادة، ما كان بحاجة إلى توجيه الاتهامات مبكرا، ولو تلميحا، إلى خصومه القدامى - الجدد، لكنه أخطأ هذه المرة أيضا.

ارتكب ما يرجح أن يكتشف أنه خطؤه الثالث خلال أقل من سنة واحدة.

كان الخطأ الأول قبوله تشكيل حكومة أقرب ما تكون إلى حكومة «صورية».. برنامج عملها السياسي معد لها سلفا، ولا قدرة لها على التصرف إلا بموجبه.

وجاء الخطأ الثاني قبل بضعة أيام عندما شكل - أو شُكلت له - الحكومة الجديدة.. بهوية لعله في قرارة نفسه ما كان يريدها. وكان طيلة الأشهر الفائتة التالية لقبوله التكليف، وقبل التأليف، يكرر الكلام عن «ثوابته» وعن منظوره لمستقبل البلاد ومصير التعايش فيها، وهذا على الرغم من واقع احتكار أحد الأفرقاء السلاح، وبالتالي، النفوذ في الدولة، وعلى الدولة.

وجاء بالأمس الخطأ الثالث، باتهامه - ولو بصورة غير مباشرة - معارضيه بافتعال التأزم الأخير في طرابلس.

الرئيس ميقاتي يدرك جيدا أن المبالغة في إغداق المناصب الحكومية على طرابلس، في حد ذاته، يعبر خير تعبير عن أزمته، وأزمة بعض من استوزر وكان معه خلال ذلك الملتقى الطرابلسي المتشنج. فمدينة طرابلس تشكل، بالفعل، بلغة مذهبية بات من العبث تجاهلها، معقلا للمسلمين السنة. بل، سبق لأحد النواب الطرابلسيين الحاليين أن قال صراحة، قبل فترة: «طرابلس معقل السنة في لبنان!». ويومذاك جر على نفسه انتقادات من عدة جهات.. كما لو كانت المناطق الأخرى في لبنان تنعم بالتآخي الطائفي الحار، أو كأن خصوم المعسكر السياسي الذي ينتمي إليه ذلك النائب آخر من تهمهم التكتلات والمشاريع الطائفية.

والرئيس ميقاتي سمع - ولعله يريد أن يصدق أيضا - رواية الرئيس نبيه بري، رئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل، عن اللحظات الأخيرة التي سبقت إعلان التشكيلة الحكومية الجديدة من القصر الجمهوري. وكيف تفتق ذهن الرئيس بري عن فكرة «التضحية» بمقعد وزاري شيعي ومنحه للسنة بغية التغلب على آخر وأخطر عقد تأليف الحكومة. وربما كان الرئيس ميقاتي يريد الاقتناع أيضا بأن «تضحية» بري بمقعده ومنحه للوزير فيصل كرامي إنجاز ضخم في التفاني والإيثار، لا يقارن من حيث حجمه إلا بقرار السيد رامي مخلوف، مؤخرا، التخلي عن أعماله التجارية لكي يتفرغ للأعمال الخيرية!

ولكن بوجود سلاح حزب الله - أو لنسمه «سلاح المقاومة» - هل سيحدث «رشو» السنة بحقيبة إضافية، أو قل اثنتين أو ثلاثا: واحدة للدكتور أسامة سعد والأخرى للسيد عبد الرحيم مراد، مثلا، أي تغيير فعلي في حقيقة الوضع؟ وهل سيبدل شيئا في ميزان القوى السياسي؟

هل سيكون «الثقل» السياسي للوزير فيصل كرامي، مع الاحترام الكامل لشخصه، مختلفا عن ثقل ميشال عون وكتلته البرلمانية التي انتخب معظم نوابها ناخبو حزب الله؟ وهل بمقدور سنيي حزب الله وموارنته وباقي «الحلفاء» من باقي الطوائف إلغاء أي نقطة أو فاصلة في استراتيجية «الحزب»، أو استراتيجيتي مرجعيته وحاضنته الإقليميتين، طهران ودمشق؟

فمبلغ علمي، لا أحد إلا عون - طبعا - مقتنع بأنه لديه من النفوذ ما يتيح له تحديد اتجاهات رياح الشرق الأوسط.

ولندع مسألة إرضاء السنة وإغرائهم جانبا، ولنفكر جديا بقضيتين اثنتين على جانب من الأهمية:

الأولى: كيف ستتصرف حكومة ميقاتي، بلونها الواحد، مع مؤسسات المجتمع الدولي؟

والثانية: كيف ستتعامل مع المتغيرات الإقليمية؟

هاتان القضيتان أخطر بكثير من خيار حزب الله أن يكافئ أتباعه من الطوائف الأخرى. وسواء طال الزمن أو قصر، يستبعد أن تقرر مؤسسات المجتمع الدولية كلها «الاستقالة» من مسؤولياتها، إكراما لحكومة «صورية» في نظام تعرض للمصادرة داخل بلد مأزوم يشكل حلقة ضعيفة في إقليم مضطرب.

كذلك، لا يشك أي عاقل في أن لبنان، بتركيبته الهشة وانقسامه السياسي والمذهبي الحاد، يمكن أن يبقى بمنأى عما يعصف بالمنطقة إلى ما لا نهاية.

لبنان كان، ولا يزال، الحلقة الأضعف، وهو الآن في عهد «سلطة – واجهة» انقسامية التمثيل، وكيدية الأهداف، وطائفية المشروع، يدخل إحدى أخطر مراحل تاريخه الحديث.