الجاسوس إيلان.. رأس الجبل العائم

TT

في عام 1997، كنت في فيينا عضوا في وفد كان يضم عددا من الصحافيين والمفكرين المصريين، وكان الدكتور أنور عبد الملك، المفكر المصري البارز، بين أعضاء الوفد، وكنت رفيقا له في أكثر من زيارة لأكثر من مكان هناك، وكنت ألاحظ أنه إذا أراد أن يقول لي شيئا، فإنه يهمس به في أذني، وكأنه يريد أن يستودعني سرا لا يجوز أن يخرج عنا نحن الاثنين، ولما تكرر منه ذلك، سألته مستفسرا، فقال ضاحكا ما معناه: إن العاصمة النمساوية كانت مسرحا أوروبيا مفتوحا تمرح فيه أجهزة المخابرات المنتمية لأكثر من بلد، خصوصا أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وكان هو، لذلك، يخشى أن يكون هناك من يراقبنا، ويراقب حركتنا من بقايا تلك الأجهزة!

طبعا، كان الرجل يقولها ساخرا، ومبالغا، ولم يكن يعنيها بالضبط، ولم يكن من المتصور، والحال هكذا، أن تكون بقايا تلك الأجهزة مشغولة بمراقبتنا، على فرض أنها لا تزال موجودة أصلا!

تذكرت هذه الواقعة، في لحظة القبض على الجاسوس الإسرائيلي إيلان في القاهرة، الأسبوع الماضي، وتساءلت، بيني وبين نفسي، عما إذا كان قد جاء وقت على العاصمة المصرية، تحولت فيه إلى مسرح يشبه مسرح فيينا، في الفترة التي قصدها الدكتور عبد الملك، وهو يتحدث معي عن مرحلة من مراحلها، كعاصمة أوروبية مهمة!

ولا نريد، الآن، أن نستبق التحقيقات مع الجاسوس إياه؛ فالتحقيق معه هو الذي سوف يقول لنا، بوضوح، متى دخل إيلان مصر، وتحت أي غطاء، وما هدفه، ومن بالضبط كان يلتقي، طوال فترة وجوده بيننا، ومع من كان ينسق، وإلى أي مدى كان هناك آخرون غيره، من دول أخرى، يؤدون الوظيفة نفسها، ويسعون إلى الغرض ذاته، في أثناء ثورة «25 يناير».

أقول هذا الكلام، وفي ذهني واقعتان محددتان، بخلاف وقائع أخرى كثيرة، غير محددة!

الأولى هي ما كان الأستاذ عماد الدين أديب قد قاله، في حوار شهير له، على قناة «المحور» الفضائية المصرية، مع المذيع معتز الدمرداش، أثناء اشتعال الثورة، وقبل تخلي الرئيس السابق حسني مبارك، عن منصب رئيس الجمهورية، بأيام.. يومها قال الأستاذ أديب: إن أجهزة الأمن المصرية لديها معلومات موثقة، بنسبة 100% وليس 99%، عن أن هناك عناصر من عدة دول دخلت البلاد قبل اشتعال الثورة، وبعد اشتعالها بساعات، وكلها عناصر جاءت من أجل نفخ النار في الثورة، وتأجيج الغضب، وبث نوع من الفتنة بين المصريين، وكان معها، أي مع تلك العناصر، أجهزة سيطرة، واتصال، وتحكم، على أعلى مستوى!

يومها أيضا قال الأستاذ عماد، وهو إعلامي محترف يستحيل أن يردد أي كلام: إن كل ما يقول به الآن - أقصد وقت إذاعة اللقاء التلفزيوني معه - سوف يثبت فيما بعد، وسوف نرى، فيما بعد أيضا، ماذا جرى في البلد، على وجه الدقة، قبل «25 يناير» بأيام، ثم بعد ذلك بقليل!

الواقعة الثانية هي حوار جرى مع اللواء نزيه جاد الله، رئيس مصلحة السجون في مصر، ونشرته هذه الصحيفة، قبل أيام، وقال فيه كلاما مهما كثيرا، غير أن الأهم فيه إنما هو تأكيده أن اقتحام السجون المصرية، في أثناء الثورة، وتحديدا يوم 28 يناير (كانون الثاني)، تم بطريقة ممنهجة، ومنظمة، وعلى يد عناصر من خارج البلد، وبأسلحة وذخائر ليست موجودة في مصر!

هذا كلام خطير، يجب أن يكون محل تحقيق جاد، وسريع، لا لشيء إلا لأن قائله ليس واحدا من عابري السبيل، وإنما هو برتبة لواء ويجلس على قمة مصلحة السجون!

وحين يقال كلام محدد، بهذه الطريقة، وعلى لسان ناس أحياء، وذوي حيثية ومكانة بيننا، فإنه لا يجوز أن يمر مرور الكرام، لكن يجب أن يستوقفنا، وأن نتدبر معانيه، وأن نخضعه للتحقيق الذي يتناسب مع أهميته، ومع خطورته، ومع أبعاده في كل اتجاه!

وإذا كنتُ قد ذكرت هاتين الواقعتين، على وجه التحديد، فلأن صاحب كل واقعة فيهما حي يرزق معنا، ويستطيع من يشاء أن يسأله، وأن يراجعه، وأن يستزيد منه إذا أحب!

في المقابل، فإن هناك وقائع أخرى كثيرة، ظلت، ولا تزال، تتردد في إطار الكلام الذي لا دليل عليه إلى الآن، ومن بينها ما كان يقال - مثلا - عن أن مجموعات من الرجال كانت قد استأجرت شققا مطلة على ميدان التحرير، وفي الشوارع المؤدية إليه، قبل الثورة، وأثناءها طبعا، وهؤلاء الرجال كانوا غرباء، ولا أحد يعرف من هم بالضبط، ولا إلى أي بلد ينتمون!

هذا الكلام قيل كثيرا، لكن لا دليل عليه، كما قلت، وقد كنت أتمنى لو أن الأجهزة المختصة قد أخضعت الأمر كله لتحقيق شامل، لنرى أين وجه الحقيقة فيه، وأين وجه الوهم والخيال!

طبعا.. لا بد أن يثور هنا سؤال كبير، عن الطريقة التي خرج بها مسجونو حماس وحزب الله من السجون بعد اشتعال الثورة بـ3 أيام، ثم عن الطريقة التي استطاعوا بها أن يكونوا في غزة، وفي بيروت بعدها بساعات.. كيف؟! ومن الذي ساعد؟ ومن الذي هيأ الطريق؟ ومن الذي تلقف كل واحد فيهم من داخل محبسه إلى أن عبر الحدود؟!

ولو أننا عدنا بالذاكرة، اليوم، إلى أيام الثورة الأولى، وإلى ما بعدها بقليل، ثم طالعنا الصحف أيامها، لنراجع ما كان يقال وقتها، فسوف نكتشف أن ما نقوله في هذه السطور قيل وقتها أيضا، في جزء منه، بشكل أو بآخر، لكنه كان يقال على استحياء، وكان يؤخذ بحساسية شديدة، من شباب الثوار في التحرير، وكانوا يرون فيه إساءة إلى نبل وطهارة الشباب الذي خرج يوم 25 يناير، وهذا صحيح طبعا، لو كان المقصود به تخوين أولئك الشباب أو بعضهم.

فالمؤكد أن شباب التحرير الأنقياء لم يكونوا على علم بوجود الجاسوس إيلان بينهم، والمؤكد أيضا أن بعضهم إذا كان قد رآه فإنه كان يتعامل معه على أنه «خواجة» معجب بالثورة وأدائها في أيامها الأولى.. والمؤكد للمرة الثالثة أن الشباب الذين ثاروا على الظلم، وعلى الفساد، لم يكونوا على علم بوجود شقق من النوع الذي أشرت إليه في الميدان وحوله، ولا عناصر من النوع الذي أشار إليه عماد الدين أديب، ولا سلاح، أو ذخيرة، من النوعية التي تكلم عنها رئيس مصلحة السجون.

شباب الثورة الأنيقة - كما أطلقت عليها وأنا أكتب عنها في «المصري اليوم» القاهرية - كان يثور في يوم 25 يناير، وما بعده، وهو خالي الذهن تماما من أن تكون الثورة قد جرى استغلالها كستار لأهداف أخرى، من جانب ناس لا صلة لهم بالثورة، ولا بشبابها!

عندي إحساس، لا معلومات، بأن ميدان التحرير، بعد قيام الثورة، وأثناءها، كان في جانب منه صورة مصغرة من صورة فيينا، في وقت من الأوقات، في ذهن الدكتور عبد الملك، وإذا كان قد جرى ضبط إيلان وهو يتحرك فيه، بكل حرية، ويلتقي أصنافا مختلفة من البشر، ويلتقط صورا معهم، فإن إيلان هذا، في تقديري، مجرد رأس جبل عائم.. أما بدن الجبل نفسه، أو جسده، فالله أعلم به، والأيام وحدها كفيلة بأن ترينا حجمه السابح تحت الماء، وامتداداته في ميدان التحرير، وفي غير ميدان التحرير!