العاملان الداخلي والخارجي في مشكلاتنا العربية

TT

عدم الاستقرار.. هو أبسط وصف يمكن أن نطلقه على الأوضاع التي تواجهها المنطقة العربية. هذه الأوضاع التي يصفها البعض بأنها «الربيع العربي»، أو «الانتفاضات الشعبية»، أو التحركات لـ«تغيير الأنظمة». كل الأوصاف جائزة، ولكنها كلها تنطوي على حالة عدم استقرار.

إن الحديث يجري عن سوريا واليمن وليبيا والبحرين. ولا أدري لماذا لا نضيف إلى هذه القائمة كل ما يجري في العراق من مظاهرات متصلة ضد الحكومة وضد الوجود العسكري الأميركي! ولا أدري لماذا لا نضيف إلى هذه القائمة كل ما يجري في فلسطين من دعوات متعثرة للمصالحة، ومن خلافات داخل حركة فتح على خلفية قرار فصل محمد دحلان وتداعيات هذا القرار، وخصوصا داخل غزة! ولا أدري لماذا لا نضيف إلى هذه القائمة حالة المواجهة السياسية الحادة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية حول قضايا المفاوضات والتسوية السياسية، التي ما لبثت أن أخذت بعدا دوليا يتركز حول عرض موضوع دولة فلسطين في الأمم المتحدة، وسط مناخ من التحالف العضوي الكامل بين واشنطن وتل أبيب! ثم لا أدري لماذا لا نضيف إلى هذه القائمة ما جرى قبل أيام في مدينة طرابلس اللبنانية من مواجهات أسفرت عن قتلى وجرحى، وانطوت على مواجهة طائفية علنية، وقيل فورا إنها صدى لما يجري داخل سوريا!

وحين تعرض هذه الأوضاع كلها في شريط إخباري واحد، تنكشف أمامنا حالة مريعة لوضع عربي متفجر، ليس كل ما فيه إيجابيا بالضرورة، إلا إذا تبنينا نظرية «الفوضى الخلاقة» الأميركية التي سعى إليها المحافظون الأميركيون الجدد منذ عهد الرئيس جورج بوش الابن، وظن الكثيرون أن هذه النظرية قد ماتت بغياب صاحبها، وها هي تعود على يد خصمه السياسي باراك أوباما، لتصبح وكأنها سياسة أميركية رسمية ومعتمدة.

إن الكثيرين من الكتاب والسياسيين العرب ينفرون من التطرق إلى مسألة التدخل الأجنبي في شؤوننا، ويرى بعضهم أنها محاولة لإلغاء العامل الذاتي في قصور المعالجة لأوضاعنا. وقد يكون في هذا الرأي شيء من الوجاهة، لولا أن الكتاب والسياسيين الغربيين يقولون لنا: لا. أنتم مخطئون. بل ويؤكدون لنا أن حلف شمال الأطلسي هو الأداة الغربية لهذا التحول. وفي هذا السياق يذكرنا الكاتب الأميركي «إيفو دالدر» في حاجة العالم كله إلى الحلف الأطلسي وقوته العسكرية (راجع مقاله في «الشرق الأوسط» - 18/6/2011)، فهو يذكرنا بأن 150 ألف جندي يشاركون في 6 عمليات للحلف، في ثلاث قارات مختلفة، من أفغانستان، إلى ليبيا، إلى مواجهة القرصنة قبالة الصومال، إلى أنشطة مكافحة الإرهاب في البحر الأبيض المتوسط (!!)، إلى تدريب قوات الأمن العراقية، إلى العمل المتواصل لتحقيق الاستقرار في منطقة البلقان.

ونحن نستطيع أن نضيف إلى هذه القائمة، التدخلات الأميركية في الوضع اليمني، والتهديدات الأميركية للنظام في سوريا، من خلال القوائم التي يتم مقاطعة أصحابها، وصولا إلى التهديد الاقتصادي بفرض الحظر على النفط والغاز، بحيث تستحيل الحياة بعد ذلك، إلا إذا وافقت سوريا على المطالب الأميركية، وخلاصتها: فك التحالف مع إيران، وقطع العلاقة مع المقاومة اللبنانية، ومع المقاومة الفلسطينية، وإنجاز اتفاق سلام مع إسرائيل، ينطلق من مضمون خطابات أوباما ونتنياهو الأخيرة في واشنطن، التي أثارت حفيظة العالم العربي كله، حتى إن الأمير السعودي تركي الفيصل كتب في الـ«واشنطن بوست» (10/6/2011) محذرا من نتائج هذه السياسة، ومنبها إلى علاقة عداء عربية قد تنشأ مع الولايات المتحدة الأميركية.

هذا التدخل في سياسات المنطقة العربية من قبل حلف «الأطلسي»، سواء كان عسكريا أو سياسيا، يتم تبريره من خلال القول «في هذا العالم أصبح كل ما هو محلي عالميا». وهذا قول صحيح، ونحن نشهد تجلياته أمام أعيننا، ولكننا لا نشهد أبدا أي محاولة لتكوين فهم عربي له، أو لبلورة سياسة عربية في مواجهته. وأقصى ما نشهده حاليا تصريحات صحافية، معاتبة أو غاضبة، تصدر عن هذه العاصمة أو تلك، وكثيرا ما تصدر فقط عن الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي يفرض عليه منصبه أن يصوغ المواقف بحيث تكون متلائمة مع مواقف عربية متناقضة، فتظهر كمواقف غامضة، أو ملتبسة، قابلة للتفسير بهذا الاتجاه أو ذاك.

وما نريد التأكيد عليه هنا، هو أن المنطقة العربية لا تواجه مشكلات داخلية فقط، بل تواجه أيضا وفي الوقت نفسه، تدخلات خارجية على مستوى عال، تبدأ بالتصريحات الضاغطة، ثم تنتقل إلى التهديد بالعقوبات الاقتصادية، لتصل أخيرا إلى شن الحروب على هذه الدولة العربية أو تلك، ولم يعد يفيدنا أن نتعامل مع ما يحدث في بلادنا على أنه أحداث داخلية فحسب، مع أنه في حالات منه أحداث داخلية بامتياز. ولكن - وعملا بقاعدة «في هذا العالم أصبح كل ما هو محلي عالميا» - ما إن يبدأ الحدث الداخلي العربي إطلاق تفاعلاته حتى تكون القوى الأجنبية جاهزة للتدخل، ومن أجل التأثير على توجيه الأحداث في الاتجاه الذي لا يهدد مصالحها السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية. وقد حدث شيء من هذا بوضوح كامل داخل الحدث التونسي، فما إن تم الإعلان عن مغادرة الرئيس بن علي حتى بدأ الضغط الأوروبي من أجل إبقاء تونس داخل نطاق النفوذ السياسي الأوروبي، وبالتالي داخل نطاق النفوذ الاقتصادي الأوروبي. وتكرر الأمر نفسه مع مصر، إذ ما إن تمت تنحية الرئيس حسني مبارك، حتى بدأت الولايات المتحدة هجومها السياسي لإبقاء مصر داخل منظومة نفوذها الدولي. وسواء نجحت في ذلك أم لم تنجح، فإن المعركة اندلعت، وهي مستمرة حتى الآن، وهي معركة تبدأ من السياسة، ثم تمتد إلى الاقتصاد، ثم تمتد إلى تسليح الجيش المصري وتدريبه، وتكون لها انعكاساتها المباشرة على العلاقة مع إسرائيل، وعلى الدعم المصري للقضية الفلسطينية. وإذا كانت ثورة مصر قد حققت بعض أهدافها، فإن أهدافها الأخرى، هي الآن في ساحة المعركة.

وحين تكون الأمور على هذه الحال، فإن أي دولة، عربية كانت أو غير عربية، لا تستطيع أن تواجه مشكلاتها منفردة، ولا تستطيع أن تواجه مشكلاتها بالانشغال بشأنها الداخلي من دون إطلالة عميقة على الوضع خارجها، سواء كان ذلك في إطار الوضع الإقليمي أو في إطار الوضع الدولي. وهنا لا نستطيع أن نتجاهل أن ثمة صراعا دوليا يدور حول المنطقة العربية، فها هي الصين وروسيا، تعلنان معا، أنهما سيواجهان أي محاولات جديدة للتدخل العسكري في المنطقة العربية. وإذا كان هذا هو شأن الصين وروسيا، فهل يمكن لأي دولة عربية أن تضع نفسها بعيدة عن هذه المواقف وما تنطوي عليه من احتمالات؟

لقد بات الوضع العربي في حاجة إلى إحداث تغيرات داخل كل نظام على حدة، وبما يناسب طبيعة تركيبه وتكوينه، ولكن الوضع العربي بات أيضا في حاجة إلى إنشاء شبكة علاقات دولية من نوع جديد. فالولايات المتحدة أصبحت شديدة العداء للمنطقة العربية بسبب تبنيها المطلق لإسرائيل، وهي تواجه مشكلات اقتصادية قد تصبح خطيرة، بينما تبرز في وجهها دول مثل روسيا والصين والهند والبرازيل، الأمر الذي يستدعي التفكير في خريطة تحالفات دولية جديدة، من أجل تقوية الذات، في مناخ صراع دولي عالمي محتدم.

وإذا كان علينا أن نركز على أهمية التغيير العربي، فإن علينا أن نحذر في الوقت نفسه من التدخلات الأجنبية في شؤوننا، فهي أمر قائم يوميا، وليست مجرد تعبير عن «عقلية المؤامرة» كما يقال.