الشعب بين التحدي والتخوف

TT

كما لمحت سابقا، كثيرا ما كان الغضب يطفح فيتفجر في مواكب ومظاهرات تلقائية محدودة، ولكنها تناظر مظاهراتنا الصاخبة وأحيانا المليونية في عصرنا هذا. حدث ذلك في أكثر المدن الإسلامية. هكذا فعل سكان مدينة بغداد كلما ضاقت بهم الحياة. كانوا يخرجون من بيوتهم ويسيرون في موكب تظاهري نحو السراي ومكتب الوالي العثماني وهم يهتفون ويصرخون «الداد الله أكبر الداد». و«الداد» هي صيحة الألم والتوجع. تسمعها من الأم التي يعذبها ابنها أو الزوج الذي يضربها. فيخرج إليهم الوالي ويسمع شكاواهم.

يتناول د. علي الوردي في عمله الموسوعي «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» شيئا عن انتفاضة جرت في بغداد عام 1832 عندما خرج سكان محلة قنبر علي في مظاهرة نحو السراي، احتجاجا على سلوك الوالي، فجرت معركة دامية بينهم وبين حرس السراي أسفرت عن عدد من القتلى فرد عليهم الوالي بأن سلط نيران مدافعه على محلة قنبر علي. ويرى بعض المؤرخين أن انتصارات الجيش المصري في سوريا وطرد العثمانيين من الشام أوحت للعراقيين بهذه الانتفاضة، على غرار ما جرى اليوم في الربيع العربي وما أوحته انتصارات تونس.

وعلى غرار خوف الجماهير من بطش الحكام وردتنا هذه النكتة من أدبيات جحا: كان حضرة الوالي قد جلب فيلا لمتعته ولهوه وأصبح مغرما به. ولكن الفيل أخذ يجوب في الأسواق، يدمر ما فيها ويأكل ويلتهم محاصيلها حتى ضاق به البقالون والكسبة، فاجتمعوا وقرروا السير نحو السراي للمطالبة باستبعاد هذا الفيل من أحيائهم. كلفوا الملا جحا بقيادة المسيرة والتحدث للوالي نيابة عنهم. سارت المظاهرة في حشود كافية. بيد أن الخوف سرعان ما دب في قلوبهم فأخذوا يتهربون واحدا بعد الآخر. وما أن وصل جحا دار الحكومة والتفت وراءه لم يجد أي أحد خلفه. لقد فروا جميعا وتركوه. وأمامه وجد الوالي الغليظ النفس فصاح به، تكلم! ماذا تريد؟ لم يعرف بما يجيبه وقد أسقط في يده. ولكنه كان ملا وفذلكات بعض الملالي كثيرة وغزيرة. فأجابه قائلا:

«يا حضرة الوالي إنني مبعوث من كل أهل هذه المدينة. لقد سرهم جدا وجود هذا الفيل الجميل بينهم وأخذوا يتمتعون برؤياه. ولكنهم يقولون إن هذا الفيل المسكين لا بد أن يشعر بالوحدة. وهم يسترحمون منك ويترجون أن تجلب له فيلة يستأنس بها».

فأجابه الوالي. هذا كلام جميل ومطلب مشروع. وبلغهم بأنني سألبي طلبهم وأستورد فيلة حلوة لمصاحبة هذا الفيل.

شكره الملا جحا على فضله وخرج. وعندما لاحظ القوم خروجه بوجه باسم فرح خرجوا من بيوتهم وخفوا إليه يسألونه عن لقائه بالوالي. فقال لهم: يا جبناء. كنتم تشكون من وجود فيل واحد والآن سيكون عندكم فيل وفيلة.

وأخشى أن تنتهي كل هذه الانتفاضات لنتائج مشابهة، والله أعلم.