آثار العولمة والقراءة الخاطئة لمعدلات النمو والإنتاجية في الاقتصاد الأميركي

TT

ربما لاحظت غرابة الأداء الاقتصادي مؤخرا، حيث بدأت أرباح الشركات وأسعار الأسهم تزداد بسرعة أكبر من النمو الاقتصادي، في الوقت الذي يسير النمو الاقتصادي بخطى أسرع من زيادة الوظائف. كانت هذه المعطيات الثلاثة متزامنة في الماضي. المفترض أن سبب هذا الانفصال زيادة إنتاجية العاملين الأميركيين، وذلك سيكون له تأثير إيجابي على الاقتصاد على المدى الطويل. لكن على عكس المزايا التي حققها تزايد الإنتاجية سابقا، لم تؤد هذه الزيادة إلى زيادة دخول أكثر العاملين ولم تترجم إلى تحسن في القدرة التنافسية أو تحسن في عجز الميزان التجاري.

ويلاحظ أن هنالك تباينا وعدم ارتباط بين أسعار الفائدة على القروض قصيرة الأجل وأسعار الفائدة على القروض طويلة الأجل وخطى النمو الاقتصادي مما يعيق محاولات مصرف الاحتياط الفيدرالي دعم الانتعاش الاقتصادي. ربما تكون العولمة، التي غيرت بنية ودينامية النشاط الاقتصادي، هي التفسير لما حدث من الأمور غير العادية. فنتيجة الزيادة الكبيرة في تدفق السلع ورأس المال عبر الحدود أصبحت المصطلحات التي نستخدمها للحديث عن الاقتصاد والإحصاءات التي علينا تحديدها وبعض الوسائل التي نستخدمها لهذا الغرض قد عفا عليها الزمن. من الأخطاء الشائعة التي ارتكبتها سابقا، هي اعتبار أداء مؤشرات البورصة الأميركية والشركات المدرجة مؤشرا لقياس أداء الاقتصاد الأميركي. وحتى نهاية التسعينات كان ذلك هو النهج المتبع. لكن منذ ذلك الحين، اتجهت أكثر الشركات الكبرى المدرجة على تلك المؤشرات إلى المشروعات العالمية من خلال سلاسل إمداد ومبيعات وقوى عاملة ومصادر رأسمال عالمية. إن إدراج أسهم تلك الشركات في البورصة الأميركية أمر تاريخي. فبحسب هوارد سيلفربليت، المحلل في «ستاندرد أند بورز»، يتم تحقيق نحو نصف مبيعات 250 شركة على مؤشر «ستاندرد أند بورز 500» الذي يصنف المبيعات بحسب التوزيع الجغرافي في الخارج. ربما يمثل ذلك مبالغة في تقدير موقف المؤشر ككل، لأن الشركات التي لا تحقق مبيعات في الخارج تكون إما صغيرة أو تعمل على نطاق محلي. لكن إذا أدركت أن متوسط المجموعة يقترب من الثلث، فستدرك أن مؤشر «ستاندرد أند بورز» لم يعد كما كان في الماضي. منذ عام 1989، أجرت وزارة التجارة مسحا يشمل شركات كبرى متعددة الجنسيات تتخذ الولايات المتحدة مقرا لها لتحديد نطاق الأنشطة التجارية الأجنبية. وكانت النتائج مذهلة حقا، فمن بين المؤسسات غير المصرفية متعددة الجنسيات، ازداد حجم المبيعات للشركات المملوكة لأجانب من 33% عام 1989 إلى 62% عام 2009. خلال الفترة نفسها، ارتفعت حصة الأجانب من إجمالي سوق التوظيف من 21 إلى 33%، بينما ازدادت نسبة حصة الأجانب في النفقات الرأسمالية من 22 إلى 27%.

تؤكد هذه البيانات الانطباع الذي يختلف في نفس المرء عند مقابلة الرؤساء التنفيذيين للشركات وهو أن الشركات الأميركية تنمو بخطى أسرع في الخارج عنها في الولايات المتحدة. ومن أسباب ذلك اقتراب ما تحققه من أرباح إلى مستويات قياسية رغم النمو الاقتصادي الضعيف في الولايات المتحدة. تتجه الشركات التي مقرها الولايات المتحدة إلى أن تصبح أقل أميركية، حيث يتم الحكم عليها من خلال جنسية حاملي أسهمها. وبحسب وزارة الخزانة الأميركية، بلغت حصة الأجانب في البورصة الأميركية العام الماضي 11.4% بعد أن كانت 10% في العام الذي سبقه. ومن المتوقع أن تتضاعف حصة الأجانب في كبرى الشركات، لكنني أرى أن الأرقام الرسمية لا تعكس الواقع.

لكن تأثير المستثمرين الأجانب أكبر في سوق السندات. فقد حصل الأجانب العام الماضي على 53% من سندات الخزانة، طبقا لبيانات وزارة الخزانة، رغم أن النسبة انخفضت من 61% منذ عامين عندما كان المستثمرون الأجانب يتهافتون على شراء السندات الأميركية كملاذ آمن يحمي ثرواتهم.

تعود مشاركة الأجانب بالنفع على دافعي الضرائب الأميركيين الذين يستطيعون الاقتراض بأسعار فائدة أقل بسبب رغبة المستثمرين الأجانب والمصارف المركزية في الادخار من خلال سندات الخزانة. لكن زيادة الطلب على أدوات الدين الحكومي الأميركي زاد من صعوبة الأمر على مصرف الاحتياط الفيدرالي الذي يحدد سعر الفائدة بحسب المصارف التي تستطيع الاقتراض يوميا للتأثير على أسعار الفائدة طويلة الأجل التي يتم تحديدها على أساس سوق السندات والتي تهم الأفراد والمؤسسات التجارية.

منذ 6 سنوات، عندما كان مصرف الاحتياط الفيدرالي يرفع سعر فائدة الأموال الفيدرالية في محاولة لإبطاء خطى الاقتصاد، تحدث رئيس المصرف آلان غرينسبان عن مواجهة المصرف معضلة، حيث كان شراء الأجانب للسندات يمثل جزءا كبيرا من هذه القصة عندما تبقى أسعار الفائدة طويلة الأجل على انخفاضها. مؤخرا كانت محاولات مصرف الاحتياط الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة على القروض طويلة الأجل من خلال تبني سياسة «التيسير الكمي» العدوانية التي تفشل أحيانا من خلال الموازنة بين بيع الأجانب لسندات الخزانة وتوجه المصارف المركزية الأجنبية إلى خفض الإيداعات بالدولارات.

من المفارقة أن في الوقت الذي يتراجع فيه تأثير مصرف الاحتياط الفيدرالي على الاقتصاد الأميركي نتيجة العولمة المالية، يزداد تأثيره على اقتصاد دول أخرى خاصة في آسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية التي تربط عملاتها بالدولار الأميركي. وحسب صندوق النقد الدولي، فإن 38% من إجمالي الناتج المحلي للاقتصاد العالمي يأتي من الدول التي تستخدم الدولار في التعاملات المالية وإذا أضفت إلى تلك الحسابات الدول التي تربط عملاتها بالدولار على بشكل مرن، سيصل عدد الدول إلى نصف دول العالم. تشعر هذه الدول بآثار ضخ مصرف الاحتياط الفيدرالي تريليوني دولار في النظام المالي من خلال زيادة معدل التضخم والارتفاع السريع لأسعار الأسهم والعقارات. وحاولت المصارف المركزية الأجنبية الحد من هذه التأثيرات عن طريق رفع أسعار الفائدة وفرض قيود على القروض المصرفية وتدفق رأس المال الأجنبي، وتفاوتت درجة نجاحها في تحقيق ذلك.

ويكتشف خبراء الاقتصاد كيف أدت سلاسل الإمداد العالمية للشركات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها إلى مبالغة الهيئات الإحصائية الحكومية في تقدير حجم ونمو الاقتصاد الأميركي ومعه نمو إنتاجية العمل خاصة في مجال التصنيع. أدى هذا التقدير والقياس الخاطئ إلى تراجع إجمالي الناتج المحلي خلال فترة الركود على نحو أكبر من المتوقع وضعف النمو وهو ما يفسر هذه الصورة القاتمة للتوظيف.

سبب هذا القياس الخاطئ فني أكثر من كونه متعلقا بتقدير أسعار القطع والمواد الخام المستوردة. فإذا كانت أسعار هذه «السلع الوسيطة» أقل من المفترض، وحجمها أكبر، كما يتكهن خبراء الاقتصاد، فالإحصاءات الرسمية الخاصة بإجمالي الناتج المحلي تبالغ إذن في تقدير القيمة الاقتصادية التي أضافها العمال الأميركيون.

وكان مايكل ماندل، خبير الاقتصاد في معهد السياسات التقدمية، أول من حذر من التقدير الخاطئ، حيث أشار إلى أن الزيادة في الإنتاج الإجمالي والإنتاجية الحقيقية، لا يعود الجزء الأكبر منها إلى العمال الأميركيين، بل إلى المكاسب الإنتاجية للموردين الأجانب أو إلى زيادة كفاءة تصنيع سلاسل الإمداد التي يرجع الفضل فيها إلى تدفق العمال الأجانب وأصحاب الشركات والرؤساء التنفيذيين الذين يصنعون ويديرون سلاسل الإمداد. وهذا من شأنه أن يساعد في تفسير عدم زيادة الأجور في الولايات المتحدة.

وكتب ماندل: «تعيق مشكلة التقدير الخاطئ عولمة الاقتصاد الأميركي المتزايدة». وتشير إلى أن سياسات الاحتياط الفيدرالي لم تفد العمال الأميركيين والاقتصاد الأميركي بالقدر الذي توقعه أكثر خبراء الاقتصاد ورجال الأعمال».

* خدمة «واشنطن بوست»