إنه عقلي الصغير!

TT

من الناحية الأخرى جاءتني ابتسامة عابرة.. ولم أرد عليها.. فأنا لا أعرف إن كانت لي أو لغيري، ولم ألتفت ورائي لأرى من هو صاحبها.. ووقعت الابتسامة على وجهي وكأنها حمامة بيضاء فوق مدخنة أحد المخابز.. وعادت الحمامة إلى حيث كانت من الجانب الآخر من «نادي الجزيرة».. لكني نظرت إلى هذه الناحية.. وفي مرارة عشرين فنجانا من البن.. وجفاف سهر الليالي الطويلة بلا نوم.. وقرف حبوب كثيرة أتعاطاها.. حاولت أن أبتسم ولكن جاء ردي متأخرا.

وحاولت أن أداري خجلي.. أو برودي.. فرحت أتطلع في الوجوه.. وكانت عيناي تتعثران بين المقاعد والمناضد.. وتتسللان بين الناس.. وتتزحلقان على الفستانين المشدودة بالصحة أو بالترزي.. وفي جانب من النادي أحسست فجأة أنني أقرأ في كتاب قديم من القرن الثامن عشر.. فالوجه الذي أراه هناك معروف في تاريخ الأدب الفرنسي.. من أيام الحب والجمال والفروسية.

وأنا أراهن أنها تنتظر فارسها الذي سيجيء ومعه سيفه.. وفوق حصانه الأبيض، ووراءه عائلته وقصوره.. وسيخطفها إلى مكان بعيد.. وفعلا جاء الفارس بلا حصان أبيض.. فقد كان هو الحصان الأبيض.. إنه صحة بلا رقة.. وقوام بلا خيال.. ونهضت هي كعصفورة ووقفت على ذراعه.. وأطلقت حمامة بيضاء أخرى ناحيتي.. فأطلقت أنا سربا من الحمام الأبيض ومعه بعض الصقور والنسور.. ووضعت في رجل كل حمامة رسالة صغيرة.

وأغلقت الكتاب الذي كنت أقلبه في خيالي وأصبح كل شيء أمامي أبيض اللون.. كصفحات سقطت منها الصور.. أو ألواح زجاجية انعكست عليها الشمس.

وكانت هذه الابتسامة فيما مضى تذيبني.. تجعلني أنزل من المقعد إلى الأرض وأركع وأشكر الله الذي وهبنا الشيء الجميل ووهبنا الإحساس به.. فنحن لا نرى الله.. ولكن نرى ما صنعته يداه.. ونحن في سعادتنا نحمده.

وفي خيالي.. ركعت وسجدت وشكرت الله.. فلا تزال الابتسامة تهزني وتنقلني من عصر إلى عصر.. إن قلبي لا يزال صغيرا.

وعندما رأيت السمراء تصافح رجلا يجلس ورائي.. وتجلس إليه وتعتب عليه أنه كان مشغولا عن ابتسامتها وإشاراتها.. حزنت وحزنت وحزنت على أن عقلي لا يزال صغيرا!