آلام المرحلة الانتقالية!

TT

عدد كبير من الدول العربية يعيش الآن آلام مرحلة انتقالية صعبة، ومنهم من ينتظر ويراقب ما سوف تسفر عنه مسيرة الأحداث لعله يتعلم أو يأخذ الدروس المستفادة. وخلال النصف الأول من هذا العام كانت المراحل الانتقالية أنواعا: الأولى منها ك انت ما أطاحت بالنظام السياسي وأصبحت القضية الانتقال إلى نظام جديد، وجرى ذلك في تونس ومصر على الترتيب، وربما انضم إليهما اليمن الآن بعد آلام قاسية طالت لشهور عدة. والثانية كانت تلك التي تشبثت فيها النظم القائمة بالواقع، وحاولت وناورت واستخدمت القوة المسلحة، وصار الأمر واقعا بين الحرب الأهلية السياسية والحرب الأهلية العسكرية، وأصبحت المرحلة الانتقالية تشمل الزمن الذي سوف ينقضي حتى يذهب النظام القديم، والزمن الذي سوف يأتي بعده للانتقال إلى نظام جديد قام على أشلاء الآلاف ونزيف الضحايا، وفي أوطان لم يبق فيها إلا الركام.

وفي ليبيا وسوريا واليمن، حتى وقت قريب، بدت مسيرة الانتقال مؤجلة إلى حين، لكنه يبدو حتميا أنه لا رجوع عن التغيير والانتقال من مرحلة إلى أخرى. والثالثة جاءتها آلام المخاض الحادة؛ حيث جرى التحدي للسلطة، وجاءت المواجهة بالقوة والسياسة والمال وحديث كثير عن الإصلاح، لكن الأنظمة بقيت في مرحلة انتقالية أوقعتها في مفترق طرق بين «سكة السلامة»، حيث إصلاحات جذرية لا طاقة لأحد بها، و«سكة الندامة»، حيث استمرار الأوضاع القلقة انتظارا للملل والأسف على أن طلب التغيير لم يصل لا إلى «بلح الشام» ولا إلى «عنب اليمن». والقائمة هنا طويلة، فيها البحرين وعمان والجزائر والمغرب والأردن؛ حيث لا يعرف أحد ما إذا كانت الثورة قد بدأت عجلاتها أم أنها تراوح مكانها في انتظار أقدار عجيبة ومدهشة. والرابعة كانت دولا عربية تعيش المرحلة الانتقالية على طريقتها الخاصة؛ فالسودان ينتقل من دولة موحدة شمالا وجنوبا إلى دولة ارتفع جنوبها شمالا حتى أبيي، أما الصومال فكانت قد دخلت إلى مرحلة انتقالية من الفوضى منذ سنوات مضت فبقيت فيها لسنوات مقبلة.

لبنان وحده يقدم تجربة متميزة، فهو لا يعرف المراحل الانتقالية التي لها علاقة بتغيير النظام السياسي؛ ولكنه يعرف المراحل الانتقالية المتكررة لقيام الدولة – الرئيس والبرلمان ومجلس الوزراء - أو اختفائها، وفي الأحوال كلها يبقى المجتمع السياسي على حاله.

المهم أن الطابع العام للمنطقة كلها هو الانتقال من حال إلى حال، وقد يكون الانتقال منتظما أو داميا، وهو دائما مصحوب بعدم اليقين، لكن فيه ما هو مشترك دائما. الأول: أن النظم القائمة لم تعد قادرة على البقاء، وما كان فيها من استثناء وشذوذ لم يعد مقبولا ممن تعلموا وشاهدوا كيف يسير العالم. ذكرنا من قبل أن «الاستثناء العربي» لم يعد مقبولا من العرب، لكن نهاية الاستثناء لا تعني بالضرورة أن الأحوال الطبيعية سوف تكون مقبولة. لاحظ ما يجري من نقاش في تونس ومصر واليمن على من يدير الفترة الانتقالية، خاصة بعد أن فجرت الثورات و«المليونيات» أحلاما لجماعات وطبقات. والثاني: دور القوات المسلحة التي انحازت لثورات فنجحت، وبعدها خافت الثورات من حكم العسكر مرة أخرى، لكنها عندما انقسمت كانت وبالا على الثورة والبلاد والمجتمع، وعندما تحدت والتفت حول النظام كان في الأمر مذبحة وبقاء الأوضاع على ما هي عليه تنتظر ثورة أخرى. والثالث: خريطة المستقبل من انتخابات ودستور وأحزاب، بينما الواقع والاقتصاد والعالم لا تنتظر أحدا لوقت طويل. والرابع: أن النخب العربية التي نجحت في التغيير، والتي لا تزال في طريقها إليه، وتلك التي لا تزال تكافح من أجله، كلها تبدو وكأنها غير جاهزة للمهمة، فثقافتها في التحول محدودة، ومتناقضة، ومتعددة المصادر، والضوضاء والصخب فيها أكثر من الحكمة.

ضع ذلك كله في «خلاط» الواقع وتأمل ما الذي سوف ينتج عن ذلك كله. وبالطبع يمكنك أن تكون متشائما كالعادة وترى بعد ذلك حالات مستديمة من الفوضى والاضطراب، التي تستمر لفترات طويلة، ولا ينهيها إلا الإرهاق وجفاف المصادر. وقد كان ممكنا أن يعيش لبنان في حرب أهلية لـ16 عاما، وكذلك فعل الصومال والسودان قبله، ولا يزال العراق لا يعرف أحد عما إذا كان تنطبق عليه سمات الدولة أم لا. ولا يوجد دليل قاطع على أن تلك الحالات الفردية يمكنها التحول إلى حالة جماعية من الجنون والتطرف.

لكن يمكنك أيضا أن تكون متفائلا؛ فكل العرب الجدد يتحدثون عن الديمقراطية والتحديث والدولة المدنية واللحاق بالعالم المعاصر. وما تشاهده من تخبط حول ما الذي يعنيه ذلك تحديدا عاشته معظم الثورات في فترات التحول والمراحل الانتقالية؛ وبشكل تدريجي فإن الميزان يعتدل والدولة تعود لممارسة أدوارها في عصر جديد. وبعد وقبل كل شيء فإن ما فات من زمن لدى الدول العربية لم يكن هباء كله، تعليما وصحة وحضرا وريفا وصناعة وزراعة وتجارة وطبقات وشرائح اجتماعية نمت وترعرعت، وهي الآن تجرب وتحاول الانتصار على الجمود واحتكار السلطة بالقوة الجمعية للشعوب. أليس طريفا أن يصل الأمر في ليبيا إلى أن يطلب العقيد القذافي عقد انتخابات عامة حرة تحت مراقبة الاتحاد الأوروبي أو حلف الأطلسي بعد 42 عاما من احتكار السلطة «الجماهيرية» في أكثر البلدان العربية شذوذا وخروجا على تقاليد الدولة حتى الديكتاتورية منها؟

وبالطبع فإن العالم لا ينتظر أحدا أثناء الفترات الانتقالية، وعندما قامت الثورات في أوروبا الشرقية تقدم حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي لكي يشكلا حاضنة التحول. وفي شرق وجنوب شرقي آسيا، قامت اليابان بالمهمة، وكان للصين دورها، ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة تماما، وهي على الأحوال كلها كانت مشغولة برعاية الانتقال في أميركا الوسطى والجنوبية. ولدينا فإنه لا يبدو أن هناك حاضنة على الإطلاق، صحيح أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول الصناعية تحاول تقديم بعض المساعدة، لكن ذلك أمر والاحتضان أمر آخر. وربما تحاول تركيا، لكن أنقرة نفسها تعيش مرحلة انتقالية بشكل ما أحرزت فيها تقدما كبيرا، لكنها لم تصل إلى الاتحاد الأوروبي بعدُ، كما أنها تريد تغيير الدستور لكي يكون رئاسيا، وبينما تزدهر فيها الديمقراطية فإن سجلها في حقوق الإنسان ليس مشرفا، وهناك تقارير أن لديها من الصحافيين في السجون المكانة الثانية بعد الصين. إيران من ناحية أخرى تحاول احتضان التجارب المختلفة بطريقتها الخاصة لكي تغطي على الثورة داخلها، وبداية المرحلة الانتقالية لديها هي الأخرى، فكما لم يعد أحد على استعداد لقبول حكم «الجماهيرية» فإن أحدا لم يعد يتحمل أو يقبل «ولاية الفقيه».. إنها مرحلة انتقالية مؤلمة حقا!!