السؤال المفخخ: أين «القاعدة»؟

TT

الجميع تساءل وما زال: أين تنظيم القاعدة من كل ما تم وما يجري الآن؟ في اليمن وشمال أفريقيا بدوله المتعددة إذا اعتبرنا أنها مثلت في وقت مضى ساحات فاعلة كان التنظيم فيها موجودا وفاعلا على الأرض وليس عبر تمثيل رمزي مطارد أمنيا أو مختبئ خلف الأسماء المستعارة يطلق مقذوفاته اللفظية عبر شبكات الإنترنت؛ ويحق لنا أن نمد خارطة السؤال ونتساءل عن تنظيم القاعدة في أفغانستان وباكستان قبل رحيل الرمز وبعده، كما هو الحال عن مصيره في دول المهجر؛ حيث المجموعات الصغيرة من الأجيال القاعدية الجديدة التي تم تجنيدها إلكترونيا!

لنقل بداية: إن ثمة من لا يحب هذا النوع من الحديث أو التساؤل، وهم أصناف شتى ولأهداف متباينة، إلا أن الخيط الرفيع الذي يجمع شتاتهم هو عدم رغبتهم في تكدير الفرح بربيع الثورات العربية، وإذا كانت الغبطة الكبيرة بالتغيير الهائل وغير المتوقع متفهمة إذا قِسناها بحجم ما حدث؛ فإن الغريب جدا هو الحرص الشديد والمفتعل على ربط تنظيمات العنف، ومن بينها «القاعدة»، بأنها ورقة النظم السياسية البائدة التي احترقت بزواله، في محاولة لإلغاء السبب والباعث والسياق والأهداف التي نشأت في كنفها تلك المجموعات والأفكار المتطرفة التي غذتها بغض النظر عن دور الأنظمة أو حتى الظرف الدولي إبان الحرب الباردة، الذي أسهم في صعود نجم التطرف عبر بوابة الجهاد الأفغاني، المعمل الذي مزج عناصر تلك المجموعات لينقلها من المحلية إلى العالمية، ونشأت بعد ذلك تيارات ونماذج مختلفة تجمعها الآيديولوجية المتطرفة المؤمنة بالتغيير، المسلحة، وتفرقها الأهداف وآليات العمل.

المتنبئون بزوال شبح «القاعدة» يشبهون عددا من الحالمين في ملفات أخرى، كالمؤمنين بنبوءات نهاية العالم أو سقوط وانهيار الولايات المتحدة أو تساقط الدول العربية كلها كأحجار الدومينو بفعل شرارة الثورة التي انطلقت من تونس، أو أن مشكلاتنا كلها في قضايا حقوق الإنسان والطائفية والاقتتال بسبب التعصب الديني والمنطق العشائري ورداءة مشاريع التنمية.. ذلك كله سينتهي بسقوط رأس الهرم، فهو الفاعل الوحيد والمطلق والعامل المتفرد بصناعة الواقع البئيس، وأي محاولة لقراءة المشهد خارج أقواس وثنائية السلطة المستبدة والشعب المقهور هي مجرد تنكر للثورة والقضية... إلخ الشعارات المعروفة التي أصبحت تتكرر بشكل يدعو إلى الدهشة.

عودا إلى الأرض وعبر بوابة «القاعدة»، فإن كل المؤشرات التي بدأ يفرزها الواقع اليومي تؤكد أن «القاعدة» غابت منذ اندلاع الثورات عن المشهد لأسباب تتصل باستراتيجية التنظيم في تعامله مع الأزمات الكبرى التي لا يكون هو فيها الطرف الفاعل، وتلك قصة أخرى بدأت تأخذ طريقها في إعادة التأسيس على أكثر من موقع، فهناك، على الرغم من تأزم الواقع الليبي العسكري وبقاء قوات القذافي تصارع البقاء بشكل دموي عنيف، فإن المقاومة المسلحة بدأت تشعر بخذلان الدول الغربية لها بعد أن نشرت التقارير قلق الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية من تسرب سلاح المقاومة إلى مجموعات من المقاتلين القدامى في مرحلة الجهاد الأفغاني وبعض عناصر تنظيم القاعدة، وهو الأمر الذي إذا لم يحسم سيطيل من زمن وكارثية المعاناة الليبية.

في اليمن ملف «القاعدة» ينطوي على خصوصية بالغة التعقيد منذ بداياته، متحالفا مع النظام وشريكا له في الانتصار على المعسكر الاشتراكي في حرب الانفصال وعبر شخصية علي محسن الأحمر، الذي قال قبل أيام إن «القاعدة» صنيعة النظام، وصولا إلى لحظات التأزم والانفصال، ثم العودة مجددا كورقة ابتزاز لدول الجوار والمجتمع الدولي، وبين ذلك الاتصال والانفصال كانت «القاعدة» وباقي التنظيمات المتفرعة عنها، وما أكثرها، كيانات مستقلة فكرا وتنظيما وتمويلا تتعامل مع باقي الأطراف وفق استراتيجيات التحالف وما تمليه الظروف على الأرض وفق الخطوط العريضة لآيديولوجية التنظيم، وهو الأمر الذي يفسره الآن رغبة تنظيم القاعدة في اليمن في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع، مفضلا بقاء قاعدته المركزية في الجنوب وفي زنجبار أبين بعيدا عن صراع الأضداد السياسيين؛ حيث لا يخوض التنظيم معارك بناء شرعية سياسية خاسرة تكلف الكثير من الكوادر الذين لا يقاتلون عادة في معارك غيرهم، وهو ما اشتهر أصلا في أدبيات تنظيم القاعدة بـ«القتال تحت راية جاهلية» والمقصود به عدم خوض أي معارك مسلحة - ما لم يستهدف التنظيم - نصرة لطرف سياسي دون آخر.

فترة الكمون القاعدية تقتصر على النشاط العسكري، بينما تظل الأبواب مشرعة؛ حيث كل الأجواء ملائمة لاستقطاب المزيد من العناصر، وهو ما يفسر إعلان وزارة الداخلية السعودية مؤخرا، كما كان متوقعا منذ البداية، أن مرتكب جريمة «الودية»، جنوب البلاد، عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح الصايل، التي أدت إلى مقتل اثنين من رجال الأمن وإصابة ثالث ينتمي إلى عناصر تنظيم القاعدة، وحاول التسلل إلى اليمن للالتحاق بالتنظيم.

هذا التحرك على مستوى الكوادر يقابله قلق أميركي كبير؛ حيث تفكر الولايات المتحدة، كما تناقلت الكثير من التقارير الصحافية، بالمخاطرة بأمنها القومي والانخراط في الواقع اليمني عبر تصعيد عملياتها داخل اليمن واستهداف عناصر تنظيم القاعدة، بالتزامن مع توفير أكبر قدر من المراقبة للأجواء اليمنية، غير آبهة كثيرا بالمخاوف الحقيقية من انزلاق البلاد إلى مزيد من الفوضى في ظل تحول الثورة إلى أزمة سياسية، والمخاوف من استغلال التنظيم للفراغ السياسي للتخطيط بحرية أكبر لعمليات نوعية تزيد من تعقيد الواقع اليمني المخيف.

تحرك الولايات المتحدة وسعيها الحثيث الآن إلى معالجة أزمة «القاعدة» في اليمن باندفاع يفوق كثيرا التفكير في الخروج من الأزمة السياسية أو تقديم مساعدات إغاثية وإنسانية طارئة أو تحسين مستوى الاقتصاد اليمني وإنعاشه، ولو عبر مؤتمر دولي عاجل، يعيد إلى الأذهان استراتيجيات ملف الحرب على الإرهاب التي تقدم الحلول المستعجلة السريعة عبر الضربات الأمنية وشخصنة الحالة القاعدية في أشخاص وقيادات ورموز وتجاهل تغلغل تنظيم القاعدة في نسيج القبيلة عبر الحماية والتحالف المتبادل، بل ووجود شرائح كثيرة من عناصر الجيش المتعاطفة أو الخاضعة لقانون الفساد العريض، خاصة فيما يتصل بسوق الأسلحة السوداء التي تتولى عمليات البيع الضخمة فيها عناصر كانت، إلى وقت قريب، تتمتع بقدرة هائلة على التنسيق والتفاوض بين الحكومة والجيش والتنظيمات المتطرفة وتجار الأسلحة، وهو أمر مرصود عبر الكثير من الأبحاث الميدانية التي قام بها باحثون غربيون عن موضوع السلاح وفساد الجيش وعسكرة القبيلة في اليمن، ويكفي أن نستحضر أن أغلب الأسلحة التي تم استخدامها للهجوم على أهداف غربية، ومنها القنصلية الأميركية في جدة، قد تم تهريبها من سوق الأسلحة اليمنية الهائلة.

في النهاية، رحيل الأنظمة المستبدة الفاشلة لا يعني سوى رحيل جزء من تحالفها مع «القاعدة» أو التنظيمات المتطرفة أو استغلالها لها كورقة ضغط، قد يكون مؤثرا على مستوى الدعم أو التغطية اللوجيستية أو الآلة الإعلامية، لكنه لا يعني نهاية عضوية أو موتا لجسد قد تم بتر رأسه، فكما أن تاريخ الأفكار والآيديولوجيات من الصعب الإشارة إلى نقطة بداية ونهاية فيه، فإن تحولاته الكبرى لا يمكن إرجاعها إلى مسبب واحد لا شريك له!

[email protected]