للفساد تاريخه أيضا

TT

قد يتصور البعض أن شيوع الرشوة والاختلاس وغيرها من أنواع الفساد الإداري، شيء جديد. بيد أن كتب التاريخ والأدب تبدد هذا الانطباع. لقد عرفناه منذ أيام الجاهلية. فلا جديد تحت الشمس. وأكثر من ذلك، فحتى هذه الانتفاضات والمظاهرات والاحتجاجات كانت معروفة. حتى شعار «ارحل» كان معروفا. فكثيرا ما بعث المسلمون بوفود إلى الخليفة للتنديد ببعض ولاته وعماله الفاسدين والمطالبة بترحيلهم. وغالبا ما استجاب أمير المؤمنين. من ذلك ما رواه أبو عباد، كاتب الخليفة المأمون، أن وفدا من الكوفة جاء يلتمس عزل والي مدينتهم، فقالوا «في السنة الأولى لولايته، اضطررنا إلى بيع مقتنياتنا وأراضينا. وتخلينا في السنة الثانية عن أنوالنا وأموالنا، وفي الثالثة هجرنا مدينتنا وجئنا أمير المؤمنين راجين رحمته بأن يضع حدا لشقائنا بعزله». لكن المأمون رفض احتجاجهم وأكد لهم استقامة الوالي وتقواه، فأجابه الناطق باسم الوفد: «صدقت يا أمير المؤمنين، وكذبنا نحن بحق الوالي. فما دام هذا الوالي على ما ذكرت، من الاستقامة والتقوى والإخلاص والعدل، فلماذا خصصتنا به كل هذه السنين الطوال دون سوانا؟ وقد ولاك الله بلدانا أخرى لترعاها كما رعيتنا، فأرسله إليها أيضا لينعم أهلها باستقامته وتقواه وإخلاصه وعدله».

لم يذكر كاتب الخليفة أبو عباد، ما إذا كان الخليفة قد استأنس بهذه السخرية اللاذعة، أو أودى بهم في السجن.

اغتصاب العقارات مما شاع في عراق صدام حسين وتونس زين العابدين، كان هو أيضا أمرا شائعا. ومنها ما رواه أبو حيان التوحيدي في أن قائد الجيش في فارس استولى على أرض لمواطن بسيط فشكاه هذا إلى السلطان، فسأله: منذ متى ملكت هذه الأرض؟ فقال: ورثتها من أبي، وأبي ورثها من جدي. فقال له السلطان: لقد انتفعت بهذه الأرض طويلا، فاتركها للقائد ينتفع بها لبضع سنوات. فقال له الرجل: أنت تعلم، أطال الله بقاءك، كم قضى هذا القائد في خدمتك وخدمة والدك من قبلك، فلماذا لا تترك له مملكتك يحكمها بضع سنوات ثم يعيدها إليك!

والتراث الشعبي مليء بالأمثال التي تدل على شيوع الرشوة والسرقة: «اللي ما يأخذه الحاكم يأخذه الموت». والبرطيل شيخ كبير. وارشوا تشفوا! ونحو ذلك.

تفاقمت ظاهرة الفساد بصورة خاصة في عهد العثمانيين على يد الولاة والقضاة الذين وفدوا للبلاد العربية لغرض واحد هو الإثراء بأسرع وقت والعودة من حيث جاءوا.