الـ«فيس بوك» حل محل ماركس والخميني في تفجير الثورات الشعبية!

TT

قد تحتاج هذه الموجة، التي ضربت المنطقة كلها والتي بدأت بتونس وانتقلت إلى عدد من الدول العربية وقد تعبر عدواها المحيطات وتصل إلى بعض دول الشرق البعيد، إلى سنوات لمعرفة أسبابها ومسبباتها ودوافعها، والمؤكد أن مراكز دراسات وبعض أجهزة الاستخبارات في الدول الغربية قد بدأت في دراسة هذه الظاهرة التي ربما أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش (الابن) قد قصدها عندما تنبأ بما أطلق عليه «الفوضى الخلاقة» التي قال عشية الحرب على العراق إنها ستعم الشرق الأوسط.

جرت العادة بالنسبة للثورات التاريخية الكبرى أن يمهد لها تنظيم محكم من حزب واحد أو من عدة أحزاب في هيئة جبهة وطنية أو ائتلاف عريض، وهذا ينطبق بالنسبة للقرن الماضي، القرن العشرين، على الثورة البلشفية الشيوعية التي أعد لها فلاديمير إلتش لينين خلال إقامته في الخارج كزعيم وملهم للحزب الشيوعي الروسي، التي تولى تنظيم شؤونها ميدانيا جوزيف ستالين بمساعدة عدد من القادة الميدانيين من أهمهم ليون تروتسكي الذي تولى لاحقا بناء الجيش الأحمر على أنقاض أسمال جيش إمبراطورية آل رومانوف.

كان هناك قادة متمرسون تنظيرا وتنظيما وراء تلك الثورة التي وصفت بأنها «هزت العالم» وكان هناك حزب عقائدي، تغلغل في خلايا دولة وصلت إلى عمر الشيخوخة والانهيار، كان عماده الفلاحون والعمال وصغار الضباط والجنود من الكادحين والفقراء أقنان الأرض، ولقد أصبحت تلك الثورة التي توقع منظر الشيوعية العالمية كارل ماركس أنها لن تبدأ في روسيا الفلاحية وإنما في بريطانيا الدولة المتقدمة اقتصاديا والتي على هذا الأساس تشكلت لديها طبقة عاملة مثقفة ولها اطلاع كبير على النظريات الاقتصادية وكيف أن تراكم رأس المال يستند إلى «فرق الجهد» واستغلال أرباب المصانع لطاقة العمالة الرخيصة.

وهذا ينطبق أيضا على الثورة الصينية التي استلهمت النظرية الماركسية - اللينينية والتي قادها ماوتسي تونغ وكان رمزها تلك المسيرة الطويلة التي قال عنها هذا المنظر الصيني، الذي قبل أن يتأثر بالثورة البلشفية التي أقامت إمبراطورية الاتحاد السوفياتي التي ضمت إليها بعد الحرب الثانية كل دول أوروبا الشرقية، كان قد تأثر بأفكار المفكر الوطني الصيني الكبير صن يات صن، إنها طريق الألف ميل التي تبدأ بخطوة واحدة وهي المسيرة التي حققت ذلك الانتصار الباهر على الـ«كومنتانغ» بقيادة تشان كاي تشيك ودحرته ليقيم دولة في جزيرة فرموزة بمساندة الدول الغربية والولايات المتحدة التي كانت قد حققت ذلك الانتصار على دول المحور في الحرب العالمية الثانية.

أما الثورة الثالثة من ثورات القرن العشرين الكبرى فهي الثورة الإيرانية التي أطاحت عرش الطاووس وأقامت على أنقاضه هذه الجمهورية الإسلامية، وهي لم تأت كهبة شبابية مفاجئة على غرار ما جرى في تونس ومصر وما يجري الآن في سوريا؛ بل كان قد جرى الإعداد لها بأناة وهدوء منذ أن انتهت بالإمام الخميني رحلة المنفى إلى الإقامة في النجف الأشرف منذ عام 1963 وحتى عودته بعد مرور عابر بفرنسا في فبراير (شباط) عام 1979، ولعل ما تجدر الإشارة إليه أن جهازا تنظيميا متفرغا كان يقوده ميدانيا حسين منتظري قوامه 75 ألفا من المعممين، الذين كانوا يحصلون على رواتب شهرية بمبالغ مجزية، هو الذي كان قد شكل جيشا لهذه الثورة التي قد حققت هدف الإطاحة بنظام الإمبراطور محمد رضا شاه بانتفاضة شعبية عارمة كان جهازها العصبي الأشرطة المسجلة التي كان يرسلها «الإمام» من الخارج ويتولى تعميمها خلال ساعات تنظيم تدرب على هذه المهمة لفترات طويلة.

وحتى بالنسبة للثورة الفرنسية (الخالدة) التي تسمى «أم الثورات» فإنها قد جاءت كنتيجة لتراكم بقي مستمرا لسنوات طويلة وانفجر في لحظة تاريخية ما كان بالإمكان لا تقديمها ولا تأخيرها ولو للحظة. ولعل ما هو معروف أن أول إنجازات هذه الثورة هو «كومونة باريس» التي تحولت بسرعة إلى ما يسمى «مقصلة روبسبير» الشهيرة، حيث انتهت تلك الحالة الثورية التي هزت أوروبا كلها وأثرت في العالم بأسره إلى مأساة مفزعة وهي لم تحقق إنجازاتها إلا بعد نحو قرنين من الزمن.

إذن، فكل ثورات التاريخ الشعبية، التي حققت أهدافها والتي انتكست وفشلت بعد نحو سبعين عاما، والمقصود هنا الثورة البلشفية الشيوعية، كان وراءها دائما وأبدا حزب سياسي متمرس وقادة مخططون ومنظرون وجهاز ميداني، وكان لديها هدف واضح إن بالنسبة للهدم أو بالنسبة للبناء، وهذا لا ينطبق إطلاقا على أي من هذه الانتفاضات الشبابية التي بدأت بلا قيادة موحدة وبلا برنامج محدد - ربما باستثناء الانتفاضة اليمنية - والتي في مقدمتها انتفاضة مصر، أو ثورة مصر التي لا تزال تعيش حالة مفزعة من التخبط والارتباك، والتي لولا مسارعة القوات المسلحة المصرية لوضع يدها على مقاليد الأمور لكانت مصر الآن محاصرة في نفق مظلم وتعاني من حالة مريعة من التشرذم والانهيار.

لقد حل بالنسبة لهذه الثورات العربية جهاز «الإنترنت» محل ماركس ولينين وستالين وماوتسي تونغ، ولقد حل الـ«فيس بوك» محل الحزب القائد القادر بجهازه البشري المدرب على سرعة الاتصال وتعبئة الجماهير، ولقد انطلقت هذه الثورات بلا قيادة واحدة، حتى في البلد الواحد، وبشعارات عامة أقصاها شعار: «الشعب يريد إسقاط النظام»، أما ما بعد إسقاط النظام، فإنه ربما لم يخطر على بال الشباب الذين أطلقوا هذه الثورات التي لا شك أن بعض منتهزي الفرص قد ركبوا أو حاولوا ركوب موجتها، وأن بعض «البلطجية» قد أغرقوها في الفوضى العارمة وفي السلب والنهب والتعدي على ممتلكات الناس، وذلك إلى حد أن قطاعا واسعا من الشعب المصري والشعب التونسي غدا ينظر إلى كل الإنجازات التي تحققت نظرة سلبية وبات بعض هؤلاء يتمنون أن ما حصل لم يحصل.

في الغرب، في الولايات المتحدة، وأوروبا، بقيت هذه الثورة الهائلة في تقنية الإعلام تستخدم لأغراض التواصل الاجتماعي ولم تستخدم، كما عندنا، لأغراض سياسية وكمحرك للثورات والانتفاضات الجماهيرية والشعبية.. والسبب بالنسبة لنا، هو غياب الديمقراطية والحريات العامة في منطقتنا العربية، وإن على نحو متفاوت، والمشكلة هنا أنه لا توجد هناك إمكانية للتأكد من صحة معلومات «الإنترنت»، وهي في أحيان كثيرة تصل إلى المتلقي مشوشة وموظفة توظيفا فرديا وبحرية جامحة غير منضبطة بأي مسؤولية، والأسوأ والأخطر أن هذا التطور الذي هو حتمية تاريخية غدا يستخدم للابتزاز وللسطو على حسابات البنوك، وغدا يستخدم من قبل التنظيمات الإرهابية، والأجهزة الاستخبارية، وقصة تسريبات «ويكيليكس» لا تزال حية وماثلة للعيان، ثم والأكثر خطرا، هو أن هذا التطور بات يستخدم استخدامات في غاية السوء والخطورة مثل التحريض الطائفي والعرقي وتشويه سمعة الناس لأغراض سياسية وشخصية.

لكن، ومع ذلك، ورغم كل المحاذير، لا بد من الاعتراف بأن هذه الثورة التي أحدثها «بيل غيتس»، استخدمت تقنياتها المتطورة لتحريك مياه المنطقة العربية الراكدة ولإشعال نيران هذه الثورات التي رغم أنها انطلقت بشعارات عامة ودون تصورات مسبقة لبرامج محددة، فإنها بالتأكيد ستحقق إنجازات أهم وأفضل من الإنجازات، هذا إذا كانت هناك إنجازات، التي حققتها الثورة البلشفية والثورة الخمينية، فاحترام حقوق الإنسان نتيجة لما جرى بات تحصيل حاصل، وإن على المدى الأبعد، وكذلك الأمر بالنسبة للفصل بين السلطات، والتداول على السلطة، وشفافية القضاء، كما تحدث حول ذلك الأستاذ صادق جلال العظم في لقاء قبل أيام مع صحيفة «النهار» اللبنانية.