أي «جمعة» حزن لا

TT

كان عهد العالم العربي حتى وقت قريب هو أن يوم الجمعة يوم هدوء وراحة وتعبد وذكر وصلاة وتجمع عائلي، يتبادل فيه الجميع التحية، ويخشعون بالقدر المتاح، وينصرفون عن هموم الدنيا قليلا.. حتى مع دخول عالم التقنية الحديثة كانت الجمعة موعدا لتناقل الأدعية والأماني بجمعة مباركة.. حتى جاء ربيع العرب وثوراته الجارفة، فباتت الجمع لها أسماء ومواقع ومهام ورسائل وشعارات وأهداف، تجيش فيها الشوارع والمدن والبلاد، ولكن تسقط فيها الأرواح أيضا وتزهق النفوس عبثا.

من المسؤول عما يحدث في «الجمع» العربية هذه كلها؟ هل هي الجموع المسيسة المندسة المتطرفة الخائنة التي خرجت في الشوارع بناء على توجيه الغير لتثير الناس وتعبث بأمن البلاد؟ أم أن المسائل المتعلقة بالكرامة الإنسانية والإحساس المقيت بالذل والمهانة وصلت إلى حد لا يمكن قبوله ولا تفهمه ولا التعايش معه، وفاض الكيل وأصبح المواطن البسيط يواجه نقطة اللاعودة، وتحطم صنم الرهبة وتدمر حاجز الذعر والخوف؟

الأنظمة العربية المستبدة التي لم تقرأ شارعها جيدا استغلت شعوبها وفصلت دساتيرها على «مقاس» ضيق جدا يناسب العائلة المحيطة بالحاكم، فاحتكرت السلطة واستولت على الاقتصاد في استغفال تام لكل الناس. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، لكن كل ذلك كان يجير بأنه يتم بناء على رغبة الشعب نفسه، وبمطلب شعبي جارف وعارم، وبنسب مئوية هائلة!

قسمت هذه الحكومات شعوبها إلى ثلاثة أنواع من المخلوقات: أرانب، وهي مجموعة تعيش في حالة رعب دائم لا تستطيع أن تتفوه بكلمة خشية العواقب، ولا تأخذ أي موقف، وهي في حالة استقرار دائم على «السور» تشاهد بعيون مفتوحة ومندهشة باستمرار وأفواه مكممة من الرعب. وهناك فئة الحمير، وهي فئة يعتقد النظام الحاكم أنها ستصدق أي شيء سيقوله لها مهما كان كذبا أو تلفيقا أو تزييفا، فهي تعودت على هذا النوع من التواصل وهذا النوع من الخطب السياسية، و«ستفاجأ» وتصدم لو تم استخدام غير هذا الأسلوب معها. وهناك نوع ثالث هو الخرفان، وهي عبارة عن مجموعة من القطيع تسير خلف بعضها بعضا بلا وعي ولا إدراك ولا دراية لما تفعل أو تقول، فاليوم نندد، وغدا نؤيد، وغدا نعد بأننا سنفدي فلانا بالروح والدم، وبعد غد سنبكي ونولول ونندب حظنا. إنها تقسيمة فئوية مناسبة جدا لكل حاكم ونظام متسلط ومستبد. لكن «ديمومة» واستمرار هذه الشرائح على حالها مسألة مستحيلة، فالأرانب ستنحصر وستدفع دفعا للنزول من على السور وتبني موقفا مع تفاقم الأوضاع، والحمير سترفع عاجلا أم آجلا شعار «لا للاستحمار» لتنفض عن نفسها الذل والاستعباد، والقطيع سينفك عندما يلاحظ ما يحدث أمامه من تساقط إلى الهاوية السحيقة.. هذه سنة الكون وسنة الله في الأرض.

أراقب بتمعن الخطاب الإلهي لكليم الله موسى عليه السلام وهو يقول له «اذهب إلى فرعون إنه طغى».. لم يقل له اذهب إلى فرعون لأنه أشرك ولأنه كفر، بل لأنه طغى، فالطغيان والظلم مظلمة عظيمة عند الحق عز وجل كما يتضح في القرآن الكريم الذي خصص لقصة موسى وفرعون الكثير من الآيات للتدبر والاتعاظ والتفكر. لكن لا أحد يتعظ، ولا أحد يدرك حرمة الدماء التي أزهقت مقابل الكرسي والمصالح المحيطة بالكرسي. إنها أنانية الذات وجبروت المنصب والقدرة على الظلم. مهما كان القائد ملهما ومفوها بالكلمات ومهارة إلقاء الخطب والكلمات الرنانة فإن الحكام الذين تفردوا بالسلطة عبر برلمانات مزورة ودساتير مشوهة وانتخابات غير صحيحة، وجاءت إليهم المناصب عنوة أو غصبا أو ورثة، حين تنتفض شعوبهم فإنها تريد سماع كلمات واضحة ومحددة «تعهد بتسليم السلطة في وقت زمني محدد للغير»، حين لا تقال هذه الكلمات يكون هناك استخفاف بالعقول، ومحاولات لتسويف المطالب وتزييف الحقائق على أرض الواقع، وإبراز أمور أخرى لا علاقة لها بأصل المشكلة ولب الموضوع، وهذا طبعا يفاقم المشكلات، ويرفع ثمن الإصلاح وتكلفة البناء.

الثقة اهتزت، والفجوة كبرت واتسعت بين الشعوب الثائرة وحكامها، ولا أحد يتعظ، ولا أحد يفهم، ولا أحد يستوعب. ها هي جمعة جديدة تحل علينا من دون إصلاح ولا تغيير ولا استيعاب لما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا، وسفك الدماء سيستمر، والصمت العربي المعيب يتواصل، وبالتالي لا يمكن الاستغراب ولا التعجب من التدخل الغربي والتركي في شؤون البلاد العربية ما دام الوضع العربي بهذه الهشاشة. جمعة جديدة تحل والحزن بادٍ على الوجوه في أكثر من موقع، ومراسم العزاء والجنازات والقمع والوحشية مستمرة بلا توقف. لكن للطغاة والظلمة يوما، وللشعب المقهور المظلوم أياما. ولقد وعد الله عز وجل وأقسم بعزته وجلاله بأن ينصرن المظلوم ولو بعد حين.

[email protected]