التفتيش عن «بوسطة»

TT

من في لبنان لا يتذكر ذلك اليوم المشؤوم - 13 أبريل (نيسان) 1975؟

في ذلك اليوم تعرضت حافلة (بوسطة بالتعبير اللبناني الدارج) تحمل أعضاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلى كمين مسلح في بلدة عين الرمانة، أودى بحياة 27 فلسطينيا، وأشعل شرارة حرب أهلية دامت نحو خمس عشرة سنة، مخلِّفة، حسب مصادر الشرطة اللبنانية، نحو 145 ألف قتيل، و127 ألف جريح، و17 ألف مفقود.. ناهيك عما ألحقته من دمار في اقتصاد البلاد وتشويه في نفوس اللبنانيين.

من التبسيط بمكان الادعاء بأن «حادثة البوسطة» كانت السبب الحقيقي لإشعال حرب لبنان الأهلية. ولكنها، قطعا، كانت المفصل الذي أشّر انتقال الأزمة الممسكة بخناق اللبنانيين آنذاك، من مرحلة المواجهة السياسية إلى مرحلة المواجهة الميليشيوية، بعد أن «تعطلت لغة الكلام»، وتحول الجدل المحتدم حينها إلى حوار طرشان.

«حادثة البوسطة» كانت التعبير الميداني الأول لانقسام اللبنانيين الحاد حيال ثوابت لا تقوم الأوطان دون إجماع عليها. ولم يعد سرا أن هذا الانقسام زاده حدة تداخل عوامل خارجية مع حسابات حزبية داخلية لم تكن الانتماءات الطائفية بعيدة عنها، مما برر ادعاء البعض بأن حرب لبنان الأهلية كانت حربا طائفية على موقع النفوذ الأول في البلاد.

ولكن، ألا يبدو غريبا، ولم يمض عقدان بعد على انتهاء الحرب الأهلية، أن يعود بعض اللبنانيين إلى التفتيش عن «بوسطة» تعيد نقل الانقسام السياسي إلى الشارع؟

من المبالغة اعتبار اشتباكات طرابلس الأخيرة «بوسطة» القرن الحادي والعشرين. ولكنها تدق ناقوس التحذير من المخاطر الأمنية المحتملة لتفاقم الخلافات المتحكمة حاليا في الساحة اللبناني.

إذا كان من غير الواقعي الحديث عن حرب أهلية جديدة في لبنان، كونها محسومة، عسكريا، للجهة التي تملك ترسانة صاروخية قادرة على تهديد أمن إسرائيل، فذلك لا يعني تحقيق استقرار سياسي سليم، في ظل خلل عسكري في المعادلة «الميليشيوية» الداخلية. لذلك يبدو التخوف من انزلاق لبنان إلى «أجواء» حرب أهلية غير معلنة وارد، في حال تفاقم حالة التأزم الراهنة.

والمقلق في هذا السياق ذلك الشبه المريب بين أجواء عامي 2011 و1975: الانقسام السياسي الحاد في لبنان يشابه انقسام عام 1975. الخطاب السياسي بين فريقي 8 آذار و14 آذار بلغ - مثل خطاب عام 1975 بين الفريق المؤيد للوجود الفلسطيني والفريق المناهض له - أفقا مسدودا.

العوامل الخارجية المتداخلة مع الانقسام الداخلي لا تختلف كثيرا عن العوامل التي تفاعلت مع انقسام عام 1975.. وقد تكون اليوم أكثر استعدادا للتورط في الشأن اللبناني.

لذلك يصعب التقليل من الأبعاد السياسية والأمنية لاشتباكات طرابلس المسلحة. وإذا كان ثمة مغزى يمكن استخلاصه من هذه الاشتباكات - بصرف النظر عن محركها - فقد يكون أن المرحلة الدقيقة التي يمر لبنان بها ليست مرحلة تشكيل حكومات بقدر ما هي مرحلة عودة إلى طاولة الحوار الوطني. من هذا المنظور يبدو تقديم تشكيل حكومة «اللون الواحد» على مناقشة الحلول المطلوبة لأزمة لبنان أشبه ما يكون بوضع العربة قبل الحصان.

كفى اللبنانيين شعارات طنانة لا يؤدي الاختباء وراءها إلى أكثر من إرجاء البحث في معضلات بلدهم الأساسية: شعار «اللاغالب ولا مغلوب» فشل في إرساء قواعد وحدة وطنية بين من ظن أنه كان غالبا، ومن اعتبر أنه كان مغلوبا، وشعار ثالوث «الشعب والجيش والمقاومة» لن يحقق وحدة اللبنانيين ما لم يتم توضيح ماهية علاقة مكونات هذا الشعار بإطارهم السياسي، أي الدولة اللبنانية.

إذا كان ثمة رسالة آنية من حوادث طرابلس فقد تكون أن الوقت ليس وقت حكومات، بل وقت عودة إلى حوار مسؤول وصريح وجدّي يضع النقاط على حروف الشعارات السياسية التي استهلكت اللبنانيين.. قبل أن تستهلك ذاتها.